الارشيف الفلسطيني ... السينما والسطو الممنهج للذاكرة الجماعية الفلسطينية

الخميس 11 حزيران , 2020 06:15 توقيت بيروت ثقافة

الثبات ـ ثقافة

ارتبط الخطاب الثقافي الفلسطيني، بالمواجهة والمقاومة للسردية الصهيونية بكل مستوياتها ومنها الذاكرة البصرية، فرغم مرور 72 سنة على النكبة، ما زال سؤال توثيق الذاكرة البصرية الفلسطينية حاضرا بقوة.

يقول المفكر الفلسطيني الراحل أدوارد سعيد: إن من الملامح المميزة لأي شعب صغير غير أوروبي، الافتقار إلى الوثائق والتواريخ، والسير الذاتية، والتسلسل الزمني للوقائع» وهو ما جعل فلسطين تعيش الهشاشة في التاريخ البصري.

أمام الأسطورة المزيفة للخطاب الصهيوني، الذي شوه التاريخ الكنعاني والفرعوني، من أجل إثبات رواية عرق من الرعاة أتى من مدينة أور العراقية. نسترجع هذا الفيلم الاستقصائي، الذي كان له شجاعة الاعتراف وتعرية الذاكرة الصهيونية المأزومة، بأرض فلسطين المحتلة. في فيلم "الإسرائيلية" رونا سيلا، عن ذاكرة التاريخ البصري الفلسطيني «نهب والخفاء: الأرشيف الفلسطيني في إسرائيل» سنة 2017 مدته (46 دقيقة).

لقد ألقي بشجاعة الضوء مؤخراً على فصل من فصول المحاولات "الإسرائيلية" لتغييب التاريخ البصري للشعب الفلسطيني، من خلال الاستيلاء على الممتلكات الفلسطينية المتعلقة بالأفلام والصور، التي تشكل الذاكرة البصرية للفلسطينيين إلى جانب فيلم سبقه يوثق لمسلسل الانتهاكات "الإسرائيلية" بحق الأرشيف الفلسطيني فيلم للمخرج باني برونر إنتاج عام 2012 بعنوان: «أعظم سرقات الكتب»، الذي يسلط الضوء على قيام "إسرائيل" بنهب عشرات الآلاف من الكتب في فلسطين (30 ألف كتاب من القدس و30 ألفاً من حيفا). 

يقول الإعلامي توفيق طه، خلال تناوله السينما الفلسطينية: «إنه لو كانت هناك سينما قبل عام 1967، أو قبل عام 1948 لما استطاع اليهود الصهاينة، تدمير مئات القرى الفلسطينية، هكذا بدون رقيب أو حسيب، لو كانت هناك سينما لاستطاع الفلسطينيون تأريخ قراهم بصريا، ولكن غياب الكاميرا أضاع جزءا كبيرا من الحقيقة» مع العلم أن أفلام الأخوان لوميير التي صورها بروميو في مدينة القدس عام 1897، تشير إلى بداية السينما في فلسطين المحتلة.

كان ضمير المخرجة رونا سيلا، يعذبها وهي ترى بعينيها هذا النهب والتزييف للذاكرة شعب أصيل وحقيقي على أرضه وهي الآتية من جذور أوروبية، كابنة لأسرة أوروبية من عرق يهودي، عاشت الإبادة النازية للمواطنين الأوروبيين، لا علاقة لها بأرض فلسطين. 

تقول عن نفسها: «نشأت في منزل بدون ذاكرة تاريخية فوتوغرافية… يبدأ تاريخي بلقاء والديّ في عام 1950، لدينا صور من ذلك التاريخ وحسب، أما قبل ذلك، فلا شيء على الإطلاق، أعرف جيداً معنى ألا يكون لديكم أي فكرة عن شكل جدتكم أو جدكم، أو طفولة والدكم، ويصح هذا أكثر على تاريخ شعب بكامله». 

لقد رأت بنفسها كيف صنعت السينما "الإسرائيلية" «هوية الحفريات» لشعب المستوطنين القادمين من كل أنحاء العالم وكان لها الدور الأساسي في بناء كيان اغتصابي إحلالي لأمة من المهاجرين، لا تربطهم سوى خرافة الصهيونية، فوثّقت مسيرة هؤلاء المهاجرين القراصنة في فيلم من جزئين طولهما مجتمعين ثلاث ساعات، اسمه «تاريخ السينما الإسرائيلية» للمخرج الصهيوني رافييل نادجاري.

وتضيف المخرجة رونا سيلا «أردت أن أعرض الوجود والثقافة والتاريخ الفلسطينيين للجمهور "الإسرائيلي" لقد نشأت كطفلة في نظام تعليمي صهيوني، وتم تشكيل رؤيتي للعالم وفقًا لذلك كانت الصور الفلسطينية تفتقر إلى السرد "الإسرائيلي" الرسمي، المخفي أو المعروض بشكل متهور، وقررت التركيز على هذه الرواية الغائبة والمخبأة. لم أتخيل أبداً الرحلة التي يجب أن أقوم بها".

لقد تفتح وعيها البصري، على الأفلام الدعائية الصهيونية، التي أنتجتها الوكالة اليهودية في الأربعينيات والخمسينيات، التي تحث اليهود من كل بقاع العالم للمجيء لفلسطين بصفتها باحثًة في التاريخ البصري ومحاضرة في جامعة تل أبيب، وفي دراسة تاريخ وثقافة التصوير الصهيوني و"الإسرائيلي" لأزيد من 20 عامًا. عرفت أهمية الصور والمحفوظات المرئية في بناء الوعي والهوية الذاتية والوطنية، وأهمية الثقافة والتاريخ للمجتمع الاستيطاني الإحلالي، باستخدام المجال البصري واستغلاله لاحتياجاتهم، وكيف يستخدمونه كوسيلة لبناء المعرفة والوعي، بالإضافة إلى التحكم في طريقة تشكيل الصراع بصريًا.

 كانت تقول دائما في كل المهرجانات التي شارك فيها فيلمها: «أعتقد أن على الإسرائيليين أن يعرفوا عن نظام السيطرة على المعرفة والتاريخ والثقافة. عليهم أن يفهموا آلية الإسكات هذه، التي لها جانبان رئيسيان: الأول، الاستيلاء على المحفوظات والمواد الفلسطينية؛ ثانيًا، إخفاؤها ومراقبتها – الرقابة، حظر الوصول، القيود، إلخ – في الأرشيف الإسرائيلي».

لقد كانت عملية البحث عن الأرشيف البصري الفلسطيني، عملية طويلة استمرت على مدى عقدين. تخضع للقوانين "الإسرائيلية"، كما لو أنها كانت مادة عسكرية "إسرائيلية" وبالتالي يتم قمعها بالرقابة، والدراسة المقيدة، وحظر/ تقييد الوصول، والسيطرة على ما يتم رفع السرية عنه، عندما يتم رفع السرية عنه. تغلبت على هذه العقبات "الإسرائيلية" بمساعدة قانونية وأحيانا بالبحث الطويل وبمقابلات معمقة مع شخصيات فلسطينية مرتبطة بمصير الأرشيف البصري الفلسطيني المنهوب، كرشيد الحاج إبراهيم، رئيس اللجنة القومية في حيفا، والفنان التشكيلي إسماعيل شموط (قابلت الفنان التشكيلي الفلسطيني إسماعيل شموط والفنانة تمام الأكحل من يافا عام 2005، وقد أطلعها شموط على لوحة لمنزل عائلته الأصلي من رسم والدته) والباحثة في الأرشيف البصري الفلسطيني خديجة حباشة، كأول امرأة تهتم بتوثيق الصورة الفلسطينية، ومديرة قسم السينما الفلسطينية. صبري جريس، مدير مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، ثم في القدس الشرقية. 

ومن وجهة نظر صبري جريس المدير السابق لمركز الأبحاث الفلسطينية، ان جنود "إسرائيليين" اقتحموا مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في بيروت كان كل هذا بلغة سينمائية استقصائية، عبر لقطات من الأرشيف والصور التي تعتبر مفقودة، مع التركيز على الكنوز التي نهبتها "إسرائيل" في بيروت في الثمانينيات. كما يكشف الفيلم مصير الأرشيف الفلسطيني، ولاسيما المحفوظات السينمائية والمرئية، التي وثقت الثورة الفلسطينية من أواخر الستينيات إلى أوائل الثمانينيات، ولكنه يتناول أيضًا الأرشيف الفوتوغرافي المنهوب منذ الثلاثينيات. وأسئلة حول المؤسسات الأرشيفية في البلدان المستعمرة ومناطق الصراع، ويسلط الضوء كذلك على الحاجة للكشف عما تم مسحه أو إعادة كتابته.

لقد اكتشفت المخرجة رونا سيلا، أن الجيش "الإسرائيلي" نهب العديد من الوثائق وتم إخفاؤها في الأرشيف "الإسرائيلي" عمداً، لتجنب كشف جرائم الحرب "الإسرائيلية"، بما في ذلك المذابح واسعة النطاق ضد الفلسطينيين، وعمليات الإخلاء القسري وهدم المنازل.

وتتحدث صحف كثيرة عن جهود ممتدة لسنوات عديدة للباحثة والمخرجة رونا سيلا عن وجود 38 ألف فيلم (بكرة) و2.7 مليون صورة، و96 ألف تسجيل صوتي، و46 ألف خريطة وصور جوية تمت سرقتها منذ عام 1948 حتى اجتياح بيروت عام 1982. 

وما بين عامي 1948 / 1949 تمكن عاملو المكتبة الوطنية من جمع 30 ألف كتاب وصحيفة ومجلة من ممتلكات سكان القدس العرب الذين تركوا المدينة كما تم جمع آلاف الكتب التي كانت في المؤسسات التعليمية والكنائس، وتناولت مواضيع مختلفة: قانونا، شريعة، تفسيرات للقرآن، أدبا، ترجمات، أدبيات علمية، تاريخا وفلسفة.

إن هذا السطو المنهجي للذاكرة الجماعية الفلسطينية، ووأد التاريخ الفلسطيني المكتوب والمصور قبل سنة 1948، هو في حد ذاته إعادة كتابة سردية جديدة لأرض فلسطين لا يقل خطورة عن سرقة الأرض الفلسطينية، وفق منظور إحلالي وظيفي يختزل فلسطين في تاريخ اليهودي فقط. تقول المخرجة الإسرائيلية بحسرة عن فيلمها: «فكما تطالب إسرائيل بإعادة الكنوز التي نهبها النازيون، مع فهم أهميتها، يجب على إسرائيل إعادة المحفوظات المنهوبة للفلسطينيين. إنها ثقافتهم وتاريخهم وتراثهم وممتلكاتهم".

إن الدرس السينمائي لهذا الفيلم الوثائقي، يؤكد على أن التاريخ الفلسطيني مفقود عمدا من السرد الرسمي لإسرائيل، وإن فيلمها بداية الاعتراف "الإسرائيلي" بهذه السرقة الموصوفة، وكذلك فضح طرق النهب والإخفاء لذاكرة بصرية فلسطينية خصبة، وبحث عميق لوصف تاريخ وثقافة فلسطين الحقيقية. وهو كذلك اختراق مهم في ما يتعلق بتأريخ التاريخ الفلسطيني، وتأكيد على أن على "الإسرائيليين" تعلم ومعرفة واحترام التاريخ الفلسطيني المعاصر الذي دمرته الصهيونية.

وعلى إلغاء ذاكرة مزيفة لأغراض صهيونية، كانت إحدى سماتها المركزية هي إظهار وصول اليهود إلى أرض خلاء، ولا توجد فيها أواصر تاريخية مع الشعب الكنعاني القديم، وهي في انتظار الشعب اليهودي ليجعلها تزدهر.
 


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل