السينما الفلسطينية أحد أهم أشكال التصدّي لعملية الاستيلاء على الأرض والذاكرة والهوية

الخميس 22 نيسان , 2021 01:39 توقيت بيروت ثقافة

الثبات ـ ثقافة

لطالما شكّلت السينما أحد أهم أشكال التصدّي لعملية الاستيلاء على الأرض والذاكرة والهوية الفلسطينية منذ بداية السبعينيات، تولّت مجموعة من المخرجين العرب والأجانب تقديم سرديات القهر والاقتلاع من الأرض والتهجير والمجازر والتطهير العرقي التي اقترفها الاحتلال الصهيوني... وصولاً إلى بروز جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين الذين يمكن أن نسمّيهم جيل ما بعد النكبة. هؤلاء حاولوا رصد المأساة من داخل الذات الإنسانية الفلسطينية.

من أصعب الأشياء محاولة الكتابة عن العنف السياسي عند تناول القضية الفلسطينية في السينما، وهو عكس ما قد يكون متخيّلاً. والأصعب اختيار فيلم ما أو أفلام عدة لمناقشة هذه القضية. على مدى أكثر من سبعين عاماً من الاقتلاع القسري للشعب الفلسطيني من أرضه، تداعت كل أنواع الظلم والقهر لتشكل سردية لا تنتهي من العنف السياسي المتعدد الأوجه والحكايات، من الاقتلاع القسري إلى التطهير العرقي إلى المجازر، مروراً بترسيخ نظام الغيتو والمعازل للوصول إلى محاولات التذويب الكامل عبر فرض شروط مذلّة وغير إنسانية لدفع الفلسطيني يأساً للتخلّي عن هويته.

هذ العسف المركّب واجهه الشعب الفلسطيني مع كل من آمن بقضيته بمقاومة شرسة. واحد من أهم أشكال هذه المقاومة قام على رصد الواقع وإبقاء الذاكرة حية كنبع متدفّق يفيض بالحكايات والنداءات والتأملات لتأكيد الوجود ومحاصرة الجلّاد. استدعت الذاكرة في مقاومتها كل أنواع الإبداع من الشعر إلى الأدب والفن التشكيلي والحكاية الشفهية والحفاظ على المقتنيات ونقل الصورة. وكانت السينما في هذه العملية واحدةً من أهم الأدوات التي استطاعت أن تجمع داخلها الكثير من كل ما سبق.

السينما التي رصدت المأساة الفلسطينية كان لها ناسها. هي لم تقتصر على السردية الفلسطينية، اذ أسهم في هذه السردية عشرات المخرجين العرب والأجانب الذين آمنوا بقضية هذا الشعب وحملوا بداخلهم رغبة عميقة في كشف الجريمة والدفاع عن حق هذا الشعب في العودة إلى وطنه. منذ البداية، كانت هناك أعمال سينمائية حاولت أن تعبّر عن مكنون هذه المأساة التراجيدية، وتعرّي الجريمة الكبرى للاقتلاع وتفضح كل الجرائم التي تلتها من مجازر وتطهير عرقي وتدمير للهوية والذاكرة.

لا يمكن أن نشير إلى عمل واحد يلخّص حجم المعاناة، فالملحمة تحتاج دائماً إلى مئات السرديات. لذلك، يمكننا أن نعتبر هذه الأعمال (المتميز منها والضعيف) محاولات مستمرة لنقل الحكاية أو جوانب من هذه الحكاية. وبما أنني هنا أتكلم عن العنف السياسي، فسأشير إلى بعض الأفلام التي شكّلت، عبر مراحل مختلفة، محاولات لفضح هذه الجريمة التاريخية وحاولت أن تثبت في ذاكرتنا لحظات حادة من الصراع لكي لا ننسى.

المحاولات الأولى كانت مهمة جداً لكونها بدايات لتأكيد المسار، منها فيلم دراما الحرب «أرض السلام» لمخرجنا الكبير كمال الشيخ (إنتاج عام 1957). قدّم لنا الفيلم ملامح أولية لما يجري من اغتصاب للأرض ومقاومة للمحتل من خلال عمل يدور محوره الأساسي حول قصة حب تجمع بين مناضل مصري وفتاة فلسطينية في القرية التي تقع تحت الاحتلال في حرب 48. ورغم محدودية البعد السياسي وسذاجته أحياناً، إلا أنّ الشحنة العاطفية التي قدّمها المخرج كانت قليلاً من كثير يعيشه الناس من قلق ورفض لهذا الظلم البيّن الذي عاناه الشعب الفلسطيني. لم يستطع الفيلم أن يرصد نوع العنف الفعلي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في تلك اللحظة، وأعتقد أن هذا كان ناتجاً عن الطبيعة التضامنية العاطفية للمخرج مع الجهل بطبيعة اللحظة السياسية وطبيعة الواقع المعاش، ما جعل المخرج غير قادر على رسم ملامح اللحظة ولا درجة القسوة التي تحملها، رغم رقّة تناوله للعلاقة العاطفية وجمال أسلوبه السينمائي.

«أرض السلام» لمخرجنا الكبير كمال الشيخ (إنتاج عام 1957) قدّم ملامح أولية لما يجري من اغتصاب للأرض ومقاومة للمحتل

لم تشهد السينما العربية أفلاماً ترصد العنف السياسي الذي يعيشه الفلسطينيون حتى بداية السبعينيات، مع صعود حركة مقاومة الشعب الفلسطيني وبداية صعود جيل من السينمائيين العرب والفلسطينيين الذين أخذوا على عاتقهم القضية الفلسطينية، واهتموا بتقديم أعمال توثّق للعنف الذي يعيش الشعب الفلسطيني في كنفه، من خلال أفلام روائية وتسجيلية توثّق لذاكرة القهر.

من العلامات المهمة لتلك الفترة مجموعة من الأفلام أنتجتها مؤسسة السينما السورية، منها الفيلم الروائي «رجال تحت الشمس» (إنتاج 1970) وهو عبارة عن ثلاث حكايات سينمائية («المخاض» – «الميلاد»- «اللقاء»). الفيلم من إخراج ثلاثة مخرجين قام كلٌّ منهم بإخراج واحدة من الحكايات، وهم محمد شاهين، نبيل المالح ومروان المؤذن. والعمل من سيناريو: نجيب سرور نبيل المالح، قيس الزبيدي، محمد شاهين ومروان المؤذن. ثم هناك فيلم «السكين» (إنتاج 1972) المأخوذ عن قصة للكاتب والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني (ما تبقّى لكم). والفيلم من إخراج وسيناريو خالد حمادة.

في عام 1972 أيضاً، قدّم لنا، من إنتاج مؤسسة السينما السورية أيضاً، مخرجنا الرائع توفيق صالح فيلمه الروائي المهم الذي أصبح واحدةً من كلاسيكيات السينما العربية ومن العلامات الفارقة في السينما الواقعية: «المخدوعون» المأخوذ عن رواية غسان كنفاني «رجال تحت الشمس».

في عام 1974، قدّمت مؤسسة السينما السورية أيضاً الفيلم الروائي «كفر قاسم» الذي يتناول مجزرة كفر قاسم التي ارتُكبت في عام 1956 في قرية كفر قاسم الفلسطينية أثناء العدوان الثلاثي على مصر. الفيلم من إخراج اللبناني برهان علوية عن قصة لعاصم الجندي. من الملامح المهمة لهذا الفيلم الروائي هو البعد التوثيقي الدقيق لكل التفاصيل التي رافقت المجزرة والحياة اليومية لأهالي القرية بدون أي محاولة للإضافات الميلودرامية الرثّة، بل إنّ ما أعطى الفيلم قوةً شديدةً في رصد العنف هو بالتحديد تلك الواقعية الدقيقة في رصد المجزرة وأسباب حدوثها والبساطة المخيفة التي مارس بها الصهاينة عنفهم الفاشي. هذا النوع من البناء الواقعي عمّق مصداقية الفيلم وأعطى إحساساً قوياً بحجم السفالة واللاأخلاقية التي يمارسها العدو الصهيوني ضد شعب من الفلاحين العُزّل.

في تلك الفترة، أي منذ أوائل السبعينيات، كان هنالك العديد من التجارب التسجيلية المميزة أذكر منها فيلم «نحن بخير» الذي كان من التجارب الطليعية العربية في تقديم لغة تسجيلية ذات طابع درامي. الفيلم يعتمد على التناقض بين شريط الصوت والصورة. شريط الصوت يقوم على برنامج اسمه «نحن بخير» كان يبث يومياً في تلك الفترة حيث يرسل الأهالي الذين شتّتهم التهجير برسائل، بعضهم إلى بعض عن طريق الراديو، ويوصلون أخبارهم، بينما شريط الصورة يوثّق القمع اليومي للاحتلال وتفجير البيوت والمحالّ. كما يوثق الاعتقالات اليومية في الشوارع وحواجز التفتيش والقتل البارد. الفيلم الذي أُنتج في عام 1970، هو من إخراج فيصل الياسري ومونتاج قيس الزبيدي. ذكري هنا للمونتاج مرتبط بأهمية الدور الذي لعبه المونتاج في بناء الحالة وإعطائها بعداً درامياً. دور المونتير كان واضحاً في بناء الفيلم. على العموم، بعد ذلك كان لقيس الزبيدي دور مهم كمخرج في السينما التسجيلية الفلسطينية. من أعماله المهمة فيلم «بعيداً عن الوطن» الذي أخرجه عام 1969وهو من إنتاج مؤسسة السينما السورية، ثم فيلم «فلسطين سجلّ شعب» وهو الوثيقة السينمائية الأولى والأهم في رصد المشروع الصهيوني وكل المعاهدات الاستعمارية التي تخصّ القضية الفلسطينية بالوثائق والأدلة منذ بداياته كمشروع استعماري على الورق حتى تبلوره وقيام المستوطنات والاقتلاع والهجرة وحتى صعود المقاومة. الفيلم من إنتاج مؤسسة السينما الفلسطينية عام 1975. كما قدّم «وطن الأسلاك الشائكة» في عام 1980.

نبيهة لطفي بإنجاز قاربت في «لأن الجذور لن تموت» مجزرة تل الزعتر والقهر الفلسطيني ما قبل المجزرة ثم التهجير الجديد

في تلك الفترة من سبعينيات القرن العشرين، كان هناك أيضاً المخرج الفلسطيني غالب شعث الذي قدّم فيلم «المفتاح» عن البيوت التي هُجر منها أهلها ولا يزالون يحملون مفاتيحها معهم وعن الاحتلال الاستيطاني اليهودي على أراضي الفلسطينيين حتى المقابر منها. ثم قدّم فيلم «يوم الأرض» الذي وثّق عمليات اقتلاع الأرض المستمرة في الناصرة. المهم في هذا الفيلم، ليس فقط توثيق الاقتلاع، بل أيضاً توثيق مقاومة الاقتلاع عبر الإصرار على الصمود في الأرض مهما كان الثمن. لقد وعى الفلسطينيون الدرس. سيقاومون بأيديهم ولن ينتظروا من يقاتل من أجلهم. الفيلم هو الوثيقة التاريخية المباشرة الأولى التي وثّقت بشكل حيّ أول تجربة مهمة في المقاومة الشعبية للتوطين. ومن شخصيات الفيلم التي أعطت للفيلم تدفّقه الشاعر المناضل توفيق زياد الذي كان حاضراً في الفيلم كونه رئيس بلدية الناصرة وأحد قادة المقاومة الشعبية. لم يكن توفيق زياد شاعراً فحسب، بل كان مقاتلاً من أجل البقاء في الأرض ورفض التهجير. «هنا على صدوركم باقون» قصيدته العظيمة لم تكن هلوسات شاعر، بل فعل حياة. من عناصر قوة هذا الفيلم فريق التصوير الذي عمل بدون حضور المخرج لعدم تمكنه من الدخول إلى الأراضي المحتلة في عام 1948.

فلسطينياً، كان هناك أيضاً المخرج مصطفى أبو علي الذي قدّم العديد من الأعمال التي رصدت الاعتداءات الصهيونية مثل فيلم «عدوان صهيوني» (عام 1973) الذي وثّق العدوان الصهيوني على المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان، وفيلم «ليس لهم وجود» (عام 1974) عن الاقتلاع الفلسطيني، وفيلم «تل الزعتر» (عام 1977) الذي أخرجه مع اللبناني جان شمعون والإيطالي بينو أدريانو (إخراج ثلاثي).

في الفترة نفسها، قامت المخرجة نبيهة لطفي بإنجاز فيلم «لأن الجذور لن تموت» عن مجزرة تل الزعتر. رصدت القهر الفلسطيني ما قبل المجزرة ثم التهجير الجديد والقهر مع مأساة المجزرة ومستتبعاتها النفسية والاجتماعية. رصد تفصيلي لمآسي المجزرة من خلال عيون النساء والأطفال.

هنالك العديد من الأفلام التي تلت حقبة السبعينيات، طبعاً تلت تلك الفترة معركة حصار بيروت 1982وهنالك العديد من الأفلام التي حاولت رصد لحظة الحصار وتدمير المدن في لبنان واستعادة ذاكرة الأماكن المدمّرة. كان هنالك العديد من الأفلام الأجنبية، وكذلك بعض التجارب الخاصة، أذكر منها فيلم «عطر الجنة» للمخرج السوري عمر أميرلاي وهو من إنتاج التلفزيون الفرنسي. «عطر الجنة» كان متابعة للحظات الحصار والقصف التدميري لبيروت والدفاع العظيم عن المدينة من قبل أهلها والمقاومة. عمل مميز وخاص ولا أعلم سبب اختفاء الفيلم بالرغم من أنه علامة في السينما التسجيلية العربية.

أثناء حصار بيروت وما بعده، أصبح الكلام عن العنف الصهيوني لا يمسّ فقط الشعب الفلسطيني، بل الشعب اللبناني وأهالي الجولان السوري والمناطق المحتلة المصرية. لكني أعتقد أن هذا الجانب يحتاج إلى دراسة تحليلية مستقلة.

في المسار الذي نشأ ما بعد الخروج الفلسطيني من بيروت، كان هنالك عدد من الأفلام التي وثّقت الاحتلال ومقاومته والحفاظ على الأرض ورفض الاقتلاع منها فيلم «زهرة القندول» للمخرجين مي المصري وجان شمعون عن مقاومة الاحتلال في الجنوب اللبناني. بعد ذلك الفيلم، قدّمت مي المصري عام 1998 فيلم «أطفال شاتيلا» عن أطفال شاتيلا وحياتهم في ظروف المخيم الخانقة، واستتبعته بفيلمها «أطفال النار» عن الأطفال في الضفة الغربية أثناء الانتفاضة الأولى.

من فيلم «جنين جنين» لمحمد بكري

هناك أيضاً تجارب أخرى في تلك الفترة منها فيلم كاتبة هذه السطور «بوابة الفوقا» (1989) عن الآثار التفصيلية للتدمير الذي تركه الاحتلال على مدينة صيدا في الجنوب اللبناني، وعن ذاكرة الهجرة الفلسطينية وإعادة إنتاج التهجير، عن الصدمة بتنوّعات نتائجها في الحياة اليومية لأهل المدينة من لبنانيين وفلسطينيين، عن محاولة محو الذاكرة، عن المقابر الجماعية، عن التهجير والمقاومة. كما قدّمت كاتبة هذه السطور عام 2008 فيلم «على أجسادهم» الذي يقدم سردية عن التطهير العرقي للشعب الفلسطيني في عام 1948، ويقدم بالتفاصيل وبالوثائق والذاكرة الشفهية لأهل قرية الطنطورة الساحلية، حكاية المجزرة والتهجير ويستعيد مع أهل القرية العلاقة بالمكان.

في الحقيقة، إنّ الأفلام التي تكلمت عن فلسطين كانت دائماً نوعاً من السردية المستمرة عن العنف السياسي بكل أشكاله. وسنلاحظ أن هناك ــ مع استمرار التجارب السينمائية ــ العديد من الأفلام عن المجازر التي حصلت. أفلام عن الاقتلاع والتهجير من الأراضي، أفلام عن المعازل وخنق الحياة وبناء الجدران وتحويل حياة الفلسطينيين إلى معازل وغيتوهات بالمعنى الحرفي للكلمة.

كمّ الأفلام التي قدمتها السينما عن القضية الفلسطينية هي تنويعات في رصد العنف بكل أشكاله من العنف الجسدي إلى العنف النفسي، ومن القهر المباشر إلى القهر المعنوي المستمر والمخرِّب لبنية الإنسان.

ما تميزت به الحقبة التي تلت ما قمت برصده من قبل في هذا المقال، وخصوصاً مع بداية التسعينيات من القرن الماضي هو بداية ظهور جيل جديد من المخرجين الفلسطينيين ممن يمكن أن نطلق عليهم جيل ما بعد النكبة. لقد تميزت أعمالهم جميعاً، بعيداً عن التقديرات المتفاوتة لمستوى إبداعاتهم، بمحاولتهم الخاصة ــ كلّ من خلال تجربته ـــ لرصد المأساة من داخل الذات الإنسانية الفلسطينية، ومحاولة رصد المناطق غير المرئية في معاناتهم، خصوصاً هذا الجيل الذي لم يعش ذاكرة النكبة، ولكن عاش كل مستتبعاتها من أزمة في الهوية والفقدان وغياب الأمان والسير في المجهول، وبالإضافة إلى كل ذلك مآسي الحياة تحت الاحتلال للمقيمين في الداخل، ومآسي المنع والقهر وانتزاع الهوية للمقيمين في الخارج، مع استمرار المجازر والعنف والاعتقال والقتل.

جيل ما بعد النكبة

قدّمت السينما الفلسطينية لجيل ما بعد النكبة تجارب نوعية في رصد العنف المرئي وغير المرئي من خلال أعمال شديدة الأهمية. نستطيع أن نقول إن من ابتدأها هو المخرج ميشيل خليفي (من فلسطينيي الجليل في الداخل المحتل عام 48). تلاه عدد من المخرجين الذين أسسوا للسينما الفلسطينية الجديدة. إيليا سليمان من الناصرة (فلسطين 48)، هاني أبو أسعد أيضاً من الناصرة، رشيد مشهراوي (غزة)، محمد بكري من الداخل 48، عزة الحسن (من فلسطينيي الشتات ـ الأصل من حيفا)، آن ماري جاسر (من فلسطينيي الشتات ـ الأصل من حيفا) ميس دروزة (من فلسطينيي الشتات ـ الأصل من نابلس) وآخرون يعذرني عدم ذكر الجميع. لكن برأيي أن ما يميز أعمال هؤلاء المخرجين والمخرجات هو محاولتهم رصد قضيتهم بعيداً عن كونها قضية رأي عام، وإنما كدراما إنسانية ذاتية تخصّهم. فهم يرصدون حكاياتهم من خلال تناقضاتهم الداخلية. لقد عبّرت عن هذا التوجه عزه الحسن في فيلمها «زمن الأخبار» حيث ابتدأت الفيلم بمكالمة هاتفية، أثناء تواجدها داخل مدينة في الضفة الغربية. المكالمة مع المصوّر الذي كانت تنوي العمل معه واعتذر لها بأنه لن يستطيع أن يحضر لتصوير فيلمها لأنه مشغول بالعمل مع وكالات الأنباء، وهناك احتياج إلى المادة المصوّرة للأخبار. هنا، تكلّمنا المخرجة لتقول بأنها قررت أن تبدأ بتصوير فيلمها بنفسها، لأن فيلمها ليس عن الأخبار بل عن الحياة اليومية، ويحكي حكاياتها اليومية بعيداً عن الأحداث. في رحلتنا مع الحكايات اليومية العادية، نكتشف في هذا الفيلم كم هي الحياة غير عادية للإنسان الفلسطيني العادي. الرائع في هذا الفيلم هو ذلك الرصد الهادئ للأشياء البسيطة داخل عالم مهووس بالقمع والقتل وتغيير مسار حياة البشر. العنف يتسلل مع كل لحظة في بناء الفيلم رغم اصرار المخرجة على أن تحكي الحكايات البسيطة التي نعيشها كل يوم. فيلم جريء في أسلوبه السينمائي وفي القدرة على استخدام البناء الدرامي الذي يمزج ما بين الوثيقة والأداء الارتجالي ليقدم عملاً درامياً بسيطاً وعميقاً يسحبك إلى مناطق من العنف الماكر الذي لا تستطيع أن ترصده أو تصل الى مكنونه في أنواع السينما التي تركّز على العنف المعلن.

فيلم «المخدوعون» (1972) لتوفيق صالح

على الرغم من ذلك، هناك أفلام تكلمت عن العنف المعلن، لكن من منظور داخلي، وليس فقط كحالة رصد للعنف مثل فيلم «جنين، جنين» لمحمد بكري أو فيلم «غزة في اليوم التالي» (غزة ستروف) للمخرج المصري –البلجيكي سمير عبد الله. قدم سمير فيلماً هاماً عن اجتياح غزة التدميري من وجهة نظر وذاكرة المصورين الصحافيين الذين قاموا بتوثيق الحدث، وهم أنفسهم من أهل غزة. نفهم في بداية الفيلم كيف أنّ الحصار منع وكالات الأنباء أن ترسل مصوّريها ومراسليها. لذلك قامت تلك الوكالات بالتعاقد مع شباب وشابات يعملون في التصوير من أهل غزة نفسها وقام هؤلاء الشباب والشابات بالمهمة بقوة شديدة. لكن ...كيف كانت مشاعرهم وأداؤهم وهم يصورون في اللحظة نفسها ما يمسّ وجودهم الشخصي، أهلهم، بيوتهم، مناطقهم؟ الفيلم يتابع تعقيد اللحظة بين أن تكون الضحية والراصد لحالة الضحية في الوقت عينه. تعقيد المشاعر واللحظات. فيلم له خصوصية شديدة لم يحوله العنف الدائر طوال الفيلم عن مشروعه في رصد التعقيد الإنساني للحظة فريدة في كآبتها.

عودة إلى جيل ما بعد النكبة الذي قد يكون جمهورنا قد تعرّف إلى أعمال بعضه بحكم كونها أفلاماً لقيت صدى عالمياً مثل أفلام ميشيل خليفي وهاني أبو أسعد وإيليا سليمان، ومنها أفلام لمخرجين ومخرجات لم يدخلوا في نظام المهرجانات العالمية أو كانت فرصهم موجودة لكن أقل، لما أصبح يدخل في حسابات المهرجانات نفسها (هذا ليس موضوعنا هنا). هناك مخرجون ومخرجات لا يقلون موهبة أو تميّزاً على سبيل المثال لا الحصر المخرجة آن ماري جاسر التي قدّمت لنا فيلمين متميزين، الأول «ملح هذا البحر» والثاني فيلم «لما شفتك». فيلمها الأول «ملح هذا البحر» عن فتاة تعيش في الشتات، وحصلت على جواز سفر أجنبي كونها مقيمة في الخارج، وقرّرت تحت رغبة جامحة وخيالية أن تعود إلى حيفا مدينتها وتستعيد مال جدها في البنك وتعود إلى بيتها، أي بيت أهلها الذي لم تره من قبل. الفيلم هو رحلة عودة ورحلة اختبار للذات وللمشاعر ولكل ما ستواجهه خلال هذه الرحلة، ليزيد من مشاعر الاحتقان داخلها. هو فيلم عن الفقدان الذي لا تريد الاعتراف به، رغم أنه يصفعها في وجهها في كل لحظة، في إصرارها على أن تعود كأنها تستطيع العودة لتواجه في كل لحظة الاستحالة المميتة.

آخر ما سأكتب عنه هو فيلم شاهدته منذ فترة قريبة. الفيلم أخرجه شاب هو صبحي الزبيدي، ونفّذه في «جامعة بير زيت» في الضفة الغربية. الفيلم اسمه «فيلم فلسطيني طويل» يسير معنا في رحلة قهر طويلة من جيل النكبة إلى جيل المعازل والغيتوهات... من جيل عانى من محاولة انتزاع هويته وقاومها بالتشبث بالهوية. قاومها ليفرض وجوده كفلسطيني يحمل ذاكرة وهوية. وعندما لم يستطيعوا أن يخنقوا الهوية، قرروا تحويل الشعب الفلسطيني إلى شعب معتقل داخل معازل وكانتونات وغيتوهات في كل مكان من مخيمات الشتات الى الضفة الغربية وقطاع غزة وفي أراضي الاحتلال في فلسطين عام 48 . لم يقدم صبحي سرديته بهذه البدائية، بل قدّمها عبر تفاصيل الحياة الخاصة واليومية لشخصيات مختلفة وأزمات مختلفة، ليجعلك تصل معها إلى عمق الإحساس بالاختناق خلف الجدار الذي يعزلك عن البحر ويرسّخ اغترابك في المكان.

كل فيلم حاول أن يتناول الموضوع الفلسطيني، وجد نفسه يتعامل مع العنف السياسي بكل جوانبه، والأفلام التي تناولت هذه القضية كثيرة ومتنوعة وأغنى بكثير مما قدمته في هذا المقال. كل ما استطعت أن أقدمه هنا هو مجرد بعض الإضاءات من ذاكرتي الشخصية.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل