من بحر البقر إلى قانا.. هل تعلمنا الدرس؟

الخميس 06 نيسان , 2023 09:48 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

تبقى مشاهد الكارثة في حياة الشعوب فارقة كاشفة، بقدر ما تكون لحظاتها مؤلمة وتجربتها زلزالًا للنفوس، ومرورها بحد ما ينزع أوراق التوت عن نقاط الضعب ويتركها عارية صادمة للعيون، يمنح فرصة من قلب الأزمة لإعادة الحساب وجرد الدفاتر ومساءلة النفس قبل الغير، ما الذي أوصلنا إلى هنا؟ وكيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟ وهل بإمكاننا الخروج من طريق الأزمة أم أنه بات ينتمي إلى باب الأحلام المستحيلة؟

قبل أي كلمة عن طوفان ما جرى ليلة الأربعاء في المسجد الأقصى، وهو جريمة بكل معنى ومذبحة على أي مقياس، فإن الخطأ كان في حسابات الشعوب العربية، والخلل الواقع كان في دفاترها أولًا، والسياسة العربية الرسمية ذاتها هي التي تكفلت أولًا بنزع سلاحها وتقليم أظفارها، ثم هي قد تطوعت ثانية بنزع ملابسها بعد تسليم أقدارها إلى "السيد" الأميركي، وفي الأخير فرطت في ثقتها بنفسها، ومعها أو قبلها في كل اعتبار كرامة أو شرف أو دين.

إعصار العنف الصهيوني ليس مرده أبدًا أزمة داخلية دفعت إلى التصعيد، العنف كفكرة ومبدأ هو أحد أسس قيام هذا الكيان السرطاني، ومسلسل المجازر والذبح الممنهج ليس جديدًا ولا هو موقف حكومة يمينية فقط، بل هو السياسة الإستراتيجية الثابتة لكيان العدو ضد كل عربي وفي أية بقعة مهما بلغت قداستها أو خلوها من المقاتلين، وتاريخنا معهم لا يحمل سوى مسلسل متتالٍ من الغدر والغيلة، منذ 1948 وحتى اليوم.

للمفارقة فإن شهر نيسان، الذي ارتكب فيه العدو جريمته المرعبة بحق المعتكفين في المسجد الأقصى الشريف، يشهد على ذكرى مذبحتين أليمتين بحق شعبين عربيين، مجزرة مدرسة بحر البقر الابتدائية في مصر 1970، وفي لبنان 1996، على مقر قوات حفط السلام التابعة لفيجي، خلال أحداث عملية عناقيد الغضب التي أطلقها المجرم شمعون بيريز، أحد من يعرفون بمعسكر الحمائم في الكيان، طبقًا لتوصيفات الأنظمة العربية الرسمية، والإعلام الخائن لقضيته وأمته ودينه.

في صباح يوم الثامن من نيسان/ أبريل 1970، قطعت الإذاعة المصرية بثها الصباحي لتعلن النبأ الأسود: "أقدم العدو في تمام الساعة التاسعة و20 دقيقة من صباح اليوم، على جريمة جديدة تفوق حد التصور، عندما أغار بطائراته الفانتوم الأميركية على مدرسة بحر البقر الابتدائية المشتركة بمحافظة الشرقية، وسقط الأطفال بين سن السادسة والثانية عشرة تحت جحيم من النيران"، جاءت المجزرة الصهيونية في ذروة حرب الاستنزاف، كرد مباشر على العمليات العسكرية المصرية الهادفة إلى تحرير سيناء، وكرسالة مباشرة إلى الناس أن النار واصلة إليكم أينما كنتم، والأيادي الطويلة للكيان قادرة على قتل أطفالكم وحرق بيوتكم، إذا استمرت الحرب.

الحصيلة النهائية للغارة كانت استشهاد 30 طفلًا وإصابة 60 آخرين، قتلوا عمدًا بحسب "أيمي حاييم"، المشاركة في الغارة، والتي أقرت أنهم قصفوا المدرسة عن عمد وأنهم كانوا يعرفون أنهم يستهدفون بقنابلهم وصواريخهم مجرد مدرسة ابتدائية.

التعامل المصري –الرسمي- مع الحادثة وضعها في بند التضحيات، وبالتالي أضافها إلى سجل الألم والبكاء، وتنافس الشعراء والمطربون والسينما في رواية الجريمة، كل على طريقته، وبالتالي مع برود الحدث وابتعاده ومرور السنوات الطويلة، فقد تحولت إلى مجرد صفحة أخرى للحزن، يمكنها أن تستثير المشاعر حد البكاء، لكنها أبدًا لن تتحول إلى بارود ونار يعي ويصمم ويرد، وبعد معاهدة كامب دايفيد، ونسيان الإعلام المصري المتعمد للجريمة، صار ما حدث مجرد جرح آخر في دفتر الأيام السوداء، لا أكثر ولا أقل.

وفي قانا كرر العدو ما يجيد عمله، وهو الاستهداف الجبان للمدنيين حين يجد في ساحات القتال أسودًا لا تخشى ولا تهرب، فاستهدف عبر سلاح مدفعيته في 18 نيسان/ أبريل 1996 مقر كتيبة فيجي التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، بعد أن لجأ إليه النازحون هربًا من غارات الطيران على مدنهم وقراهم وبيوتهم، والمحصلة النهائية للمجزرة المروعة كانت ارتقاء وإصابة 250 مواطنًا، لتبقى واحدة من أضخم المجازر الجماعية التي ارتكبتها اليد الصهيونية الأثمة في حق المدنيين العرب.

هل خلقنا للموت ذبحًا على يد الصهيوني والأميركي، هل وصل بنا الهوان إلى أن رد الفعل الوحيد على مجازر الصهاينة هو الحوقلة والأدعية وترديد الأشعار؟ هل يصلح شهر رمضان مع غض البصر عن الدماء الزكية السيالة في فلسطين؟ هل يقبل الله عمل شعوب نسيت شرفها ودينها، وقبلت أن تقاد إلى حيث الحظيرة الصهيونية تحت الراية الأميركية؟

في الحقيقة فإن الوحيد الذي قدم لنا الإجابة الوحيدة الصحيحة، كان –ولا يزال- سماحة السيد حسن نصر الله، من قلب المعارك، وفي ذروة الحرب مع العدو الصهيوني، في يوم خالد وظرف تاريخي ليست له سابقة، في الخامس والعشرين من آيار/ مايو 2000، وقف السيد ليعلن ما هي الوصفة الضامنة للبقاء والمقاومة والانتصار، عقب أول مرة يرحل فيها العدو عن أرض عربية دون قيد أو معاهدة، وينسحب تحت ضغط النار والبأس الشديد لمقاومتنا في جنوب لبنان.

في هذا اليوم المهيب، أطل سماحة السيد كفجر ندي على الأمة العربية، التي لم تعرف من الانتصارات إلا أحلامًا وأمانيَ، بأبلغ خطاباته على الإطلاق، قطعة أدبية فريدة لم تعرفها آذاننا من "الزعماء" العرب الذين لا يعرفون للعربية الصحيحة نطقًا ولا سبيلًا، وهو خطاب تاريخي في مناسبته، وهو لم يسقط في فخ التفاخر أو الحديث عما كان، بل كان خطابًا يؤسس لمرحلة جديدة من العمل الإيماني المقاوم، يرى واقعه ويدرك أدواته ويمتلك القدرة والرغبة والإرادة لصناعة النصر بعد النصر، ويجدد التمس بالثابت العربي الأقدس في صراعنا مع الأميركي والصهيوني "التحرير من النهر إلى البحر".

في هذا اليوم المهيب من تاريخنا المعاصر، قال سماحة السيد إن موقف المقاومة هو فعل عقائدي وإيماني وأخلاقي وإنساني، موقف مبدئي لا يعرف الحدود ولا يمكنه التفريط ولا تؤثر فيه مصالحًا ولا سياسة، استهل سماحته الخطاب بأعذب ما يمكن أن يتلى على القلوب: "في أجواء أربعين أبي عبد الله سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، لنؤكد من جديد مقولته وخطه، لنثبت من جديد أنّ الدم هنا ينتصر على السيف، وأنّ الدم هنا قهر السيف وهزمه، وأنّ الدم هنا حطّم كل قيد، وأنّ الدم هنا أذلّ كل طاغية ومستكبر".

وعن الإجابة عن واقعنا، في هذه المناسبة التي مرّ عليها 23 عامًا إلا قليلًا، كانت فلسطين هي الحاضرة في كل فقرة وكل إشارة، قال السيد: "الخيار عندكم والنموذج ماثل أمام أعينكم، المقاومة الصادقة والجادة يمكنها أن تصنع لكم فجر الحرية. يا إخواننا وأحباءنا في فلسطين، أقول لكم يا شعبنا في فلسطين إنّ الكيان الذي يملك أسلحة نووية وأقوى سلاح جو في المنطقة، والله هو أوهن من بيت العنكبوت".

والله هو أوهن من بيت العنكبوت يا سيد، لو توفرت الإرادة لكل إنسان على أرض فلسطين، هذا الكيان الذي يستشرس على المدنيين والضعفاء وقصور الحكم العربية، يهتز ويتداعى أمام سكين في يد فلسطيني، ويرتعد أمام سلاح خفيف في يد طفل في الثالثة عشرة من العمر، ويفزع أشد الفزع أمام صواريخ المقاومة، وحقًا وعدت سيعودون من حيث جاؤوا.

 

أحمد فؤاد ـ العهد


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل