أقلام الثبات
منذ ساعات، دخلت المدرعات "الإسرائيلية" مستوطنات الضفة الغربية، بهدف التمركز فيها للمرة الأولى منذ الانتفاضة الثانية، في مؤشرٍ لتخلخل الأمن بشكلٍ خطير، بين هذه المستوطنات وبين المدن والبلدات العربية، نتيجة تكرار المواجهات، على خلفية إقدام مجموعات من المستوطنين اليهود على ترهيب الجوار الفلسطيني بكافة الوسائل، خصوصاً بعد عملية طوفان الأقصى، وتمكنوا تحت أعين ورعاية الجيش "الإسرائيلي" من تهجير سكان أكثر من 35 بلدة وقرية، عبر الاعتداء على الأملاك والأرزاق والمراعي وموارد المياه، علماً أن التماس بين الفريقين موجود في الضفة في كافة مناطقها المعروفة وفق تقسيمات "أوسلو"، بتسميات: "ألف" و"باء" و"جيم"، لأن توسُّع الاستيطان "الإسرائيلي" الحاصل منذ 1967، لم تحُل "أوسلو" عام 1993 دون استمراره على حساب ممتلكات الفلسطينيين، بالرغم من الشجب الكلامي الدولي لمخاطر الاستيطان.
القهر الحاصل في الضفة الغربية نتيجة تلاصق المستوطنات اليهودية بالبلدات العربية، قد لا يكون حاصلاً في قطاع غزة، بعد انسحاب الجيش "الإسرائيلي" عام 2005 وتفكيك المستوطنات من داخله، ولكن منطقة غلاف غزة على سبيل المثال لا الحصر، مجموعة مستوطنات "إسرائيلية" على الحدود المتاخمة للقطاع، يبلغ عددها 12 مستوطنة، وأهمها مستوطنة سيديروت.
المساحة الإجمالية لهذه المستوطنات 370 كيلومتراً مربعاً، أي بمساحة كامل قطاع غزة، وفيما عدد سكانها كان 70 ألف نسمة قبل عملية طوفان الأقصى، يحتشد بنفس المساحة في القطاع 2 مليون فلسطيني وسط حصار خانق دام 17 سنة.
وإذا كانت مشهديات العمليات الحربية والطائرات والصواريخ، وحرب التدمير المتبادلة وخرائط بنوك الأهداف، تطغى حالياً على جو الإعلام الحربي لدى مختلف الأطراف، مع إضافة توازن التهجير كجزء من هذه الحرب: غزة مقابل غلاف غزة، وقرى الجنوب اللبناني وأحياء الضاحية، تقابلها مستوطنات الشمال وحيفا في فلسطين المحتلة، فإن كل ما يحصل الآن على جبهات القطاع والضفة الغربية ولبنان، لن يُقارن مستقبلاً بعمليات الطعن في بئر السبع والخضيرة ثم في بردس حنا - كركور في الخضيرة منذ ساعات، لأن ما حصل سيتكرر، بعد أن أصبح لدى الفلسطينيين مشروعية في العمليات الثأرية، لأرواح عشرات آلاف الشهداء والمفقودين، في لقطات مُستعادة من "ثورة السكاكين" التي كانت تمنع المستوطنين من مغادرة منازلهم إلى أعمالهم، وحتى لو كان حل الدولتين مطروحاً في المستقبل فإن "الثأر الراكد" سيستمر بين الطرفين، ويحمل أحقاداً ذات طابع ديني.
الشيخ خالد الملا رئيس جماعة علماء العراق، في رسالة إلى المرجع السيد علي السيستاني، متحدثاً باسم شيعة وسنة العراق، قال: "إن "إسرائيل" تشنُّ على المسلمين حرباً دينية". وبصرف النظر عن آراء المرجعيات الدينية والسياسية الكبرى، فإن هذه الانطباعات صحيحة، وقد تجلَّت في الأوساط الداخلية بفلسطين المحتلة، خاصة في الضفة الغربية حيث تتداخل المستوطنات اليهودية مع المدن والبلدات العربية، وينشط المستوطنون تحت حماية الجيش الصهيوني في التضييق على المدنيين الفلسطينيين، والاعتداء على ممتلكاتهم وأرزاقهم، وتتجلَّى أيضاً في لبنان من خلال الاستهداف المركَّز لبيئة حزب الله، في الجنوب والضاحية والبقاع.
وبمقدار ما انتقد الفلسطينيون المنخرطون في عملية السلام مع "إسرائيل"، عشوائية إقامة المستوطنات، وشاركتهم كلامياً بيانات القمم العربية، واستنكارات الأمم المتحدة وأطراف دولية أخرى، تشمل روسيا، وبريطانيا، وفرنسا، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، اقتصرت مواقفها على الشجب، لكن حقيقة ما يجري من بناء للمستوطنات، حتى ولو بقيت حجراً بلا بشر، هو تهجير مدروس لتهجير الفلسطينيين، وتحقيق أهداف الصهيونية الدينية التي تحكُم إسرائيل في الوقت الحاضر، والبدء بتهجير اللبنانيين وفق ما أورد المتحدث باسم الجيش الصهيوني أفيخاي أدرعي في تغريدة: "يستمر الجيش في مهاجمة مواقع حزب الله في القرى الجنوبية وبالقرب منها، وبناء على ذلك، يُحظر عليكم العودة الى البيوت التي قمتم بإخلائها في القرى والبلدات حتى اشعار آخر، وذلك حفاظًا على سلامتكم وسلامة أحبائكم”.
ليست أهداف الحرب على لبنان إعادة سكان المستوطنات الشمالية، الذين لن يعودوا في المدى المنظور، خاصة في ظل حكومة بنيامين نتانياهو التي تحكُم من منظور الصهيونية الدينية، بالتحالف بين حزب الليكود، والحزب الديني القومي ممثلاً بوزير المال يتسئيل سيموترتش، وحزب القوة اليهودية ممثلاً بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، ولمَن يحمِّل المقاومة في لبنان المسؤولية بموضوع إسناد غزة وبالتالي إدخال لبنان في حمأة الحرب، ننقل عن الوزير العنصري سيموتريتش قوله في إحدى المقابلات التلفزيونية قبل عملية "طوفان الاقصى": "أريد دولة يهودية وفق قِيَم الشعب اليهودي، والقدس في كتبنا تمتد إلى دمشق، وحدودنا تشمل أراضٍ في لبنان وسوريا والأردن ومصر والعراق وحتى المملكة السعودية، لكن الأمر يجب أن يتمّ على مراحل".
وإذا كانت حكومة نتانياهو باقية حتى العام 2026، بالتركيبة نفسها والأيديولوجية ذاتها، فلا أمن في المنطقة لا للمستوطنات ولا لجوارها.