بين وحدة الساحات وحطام المستوطنات .. المقاومة ترسّخ أقدامها

الجمعة 19 كانون الثاني , 2024 10:48 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

لم يتصاعد نجاح المقاومة في السنوات الأخيرة على المستوى العمليّاتي فحسب، بل نجحت أيضاً في ترسيخ عدد من الأفكار بات تكرارها على الألسن واستخدامها الواسع إعلامياً مدخلاً لتثبيت الهزيمة النفسية بحق العدو الصهيوني، وصار من النادر جداً أن يُغالب محلل إسرائيلي الواقع فيزعم نصراً أو يدعي وصول "جيشه" إلى أهدافه.

في السنوات القليلة الأخيرة، راج عدد من العناوين المتعلقة بالصراع العربي-الإسرائيلي، كان أهمها من ناحية التأثير في الداخل الإسرائيلي ذاته: "وحدة الساحات". المحك هنا يتمثل في قدرة محور المقاومة على التوسع أفقياً ليضم عدداً من الفصائل والحركات المسلحة التي لم تكن تحت رايته منذ عقد مضى، أو بالأحرى لم تكن الظروف مهيأة داخل القطر العربي الموجودة فيه كي تؤدي دورها في المقاومة، ثم الشروع في التنسيق بين تلك الحركات أو الجبهات للمساهمة في المعركة في التوقيت نفسه.

يقارب بعض المحللين بين المسار السياسي الذي شكّل "وحدة الساحات" والتكتلات التي ظهرت في مرحلة أفول الخطاب القومي العربي، وكرد فعل على انسحاب القاهرة من الصراع وتوقيع معاهدة كامب ديفيد مع الكيان الإسرائيلي سنة 1978. في تلك المرحلة، ظهرت "جبهة الصمود والتصدي" لتضم عدداً من الأنظمة العربية والقوى الفلسطينية الرافضة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي.

لكنْ تلك المقاربة لا تصحّ على طول الخط، بحُكم أن المحور الذي يوسّع جبهة القتال ضد الوجود الصهيوني والأميركي في المنطقة اليوم لم ينشأ في سياق ردّ فعل، كما أنه يعتمد على حركات المقاومة الميدانية أكثر مما يراهن على الأنظمة الرسمية. كذلك، يعتمد مبدأ حمل السلاح وخوض المعركة بشكل مباشر وصريح ضد الاحتلال و"جيشه" ومصالحه الاقتصادية، أي أن عمود خيمة محور المقاومة اليوم ليس الموقف التقدمي فحسب، بل القدرة السريعة على ترجمة هذا الموقف ميدانياً أيضاً.

عملياً، إن التنسيق العالي بين كل مكوّنات محور المقاومة هو أمرٌ قائم منذ فترة طويلة، كما لا يغيب عن أحد تكاتف جميع التنظيمات المقاومة داخل فلسطين، لكن من ناحية شيوع مصطلح "وحدة الساحات"، يمكن إرجاعه إلى أمرين:

 الأول، الأحداث التي رافقت معركة "سيف القدس" التي أطلقتها المقاومة الغزيّة عام 2021 رداً على محاولات الاحتلال إزالة حي الشيخ جرّاح في القدس وانتهاكات المستوطنين لحُرمة الأقصى. وبهذا، تكون أول حرب تخوضها الفصائل في غزة لأسباب غير متعلّقة بالوضع الميداني داخل القطاع.

حينها، وجد الكيان الإسرائيلي نفسه أمام شعب فلسطيني ينتفض ككتلة واحدة رافضاً أي مشاريع لتفتيته وعزله، وذلك رغم وجوده في مناطق متفرقة.

الثاني، العدوان الذي شنّه الاحتلال الإسرائيلي في صيف العام قبل الماضي على قطاع غزة، حين استهدف مواقع تابعة لحركة الجهاد الإسلامي، ما أدى إلى استشهاد 48 فلسطينياً، بينهم تيسير الجعبري وخالد منصور القياديان في سرايا القدس، وكان هذا رداً على تأسيس حركة الجهاد كتيبة جنين في الضفة الغربية تحت قيادة الشهيد جميل العموري.

أطلق العدو على عمليته اسم "الفجر الصادق". أما حركة الجهاد التي ردّت على العدوان بقصف عدد من المستوطنات المتاخمة للقطاع، فأطلقت اسم "وحدة الساحات" على عملياتها، لوعيها بأن التصعيد الإسرائيلي سببه خروج الحركة من "حدود القطاع المحاصر" إلى الفضاء الفلسطيني أو بالأحرى إلى الفضاء المقاوم على امتداد المنطقة بأسرها.

وحدة الساحات خلال العام المنصرم وصولاً إلى "طوفان الأقصى"

يُنظر دولياً وإقليمياً إلى عام 2023 باعتباره عام "فلسطين ومحورها" بامتياز، ويمكن التأكد من ذلك عبر متابعة الإعلام الإسرائيلي ذاته، إذ إن العدو لا يقيس حجم نجاحه أو فشله بالاعتماد على أرقام "المصابين والقتلى" من الجانبين، كما يفعل بعض المرجفين من الجانب العربي، فتفوُّق الفلسطينيين عددياً على اليهود الغزاة أمرٌ قائم، وكلما مرّت السنون اتسع الفارق وتأكّد التفوق العددي، لكن العدو يحدد نجاحه من عدمه بناء على عاملين:

الأول: قدرته على إخضاع الشعب الفلسطيني إخضاعاً كاملاً على المستويين النفسي والعملي، بحيث يصبح مشلول القدرة عاجزاً عن العمل على استرداد أرضه المسلوبة.

الثاني: عزل فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي والعالم، وبالتالي الفصل بينها وبين الآبار والأسواق التي يمكن أن تتزوّد منها بالماء والمؤن، بما يقضي عليها بالذبول ذاتياً، ويسهّل مهمة تفتيتها داخلياً.

خلال الشهور الماضية، كانت المقاومة الفلسطينية في أشرس حالاتها، إن جاز التعبير، إلى حد تمكّن العناصر المسلحة في قطاع غزة من عبور "الحدود" وتنفيذ عمليات داخل المستوطنات المحيطة بالقطاع، ثم العودة بأسرى من الجانب الإسرائيلي يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر. 

الأمر لم يتوقّف عند هذا الحد، بل صعّدت كل جبهات محور المقاومة من لبنان إلى اليمن استهدافها للاحتلال ومصالحه بمجرد شروعه في عمليته الانتقامية بحق أبناء غزة.

في نيسان/أبريل الماضي، قال الصحافي الإسرائيلي يوني مناحم: "إن قصف إسرائيل بالصواريخ خلال عيد الفصح من قطاع غزة وجنوبي لبنان هو المرحلة الأولى من حرب الاستنزاف التي يشنها محور بقيادة إيران عبر استخدام استراتيجية وحدة الساحات".

وبعد طوفان الأقصى واتساع رقعة القتال، تبيّن للجانب الإسرائيلي عمق الروابط بين عناصر محور المقاومة وقدرتها على التصعيد وإطالة أمد القتال.

قامت نظرية الأمن الإسرائيلية التي أشرف على بلورتها رئيس الوزراء الإسرائيلي وزير الدفاع آنذاك ديفيد بن غوريون على مبدأ "الدفاع عن الوجود"، وهي تطوير ما لأطروحات زئيف جابوتنسكي، الأب الروحي لليمين الإسرائيلي، والتي نشرها عام 1923 تحت عنوان "الجدار الحديدي"، واستندت إلى قلة عدد سكان "إسرائيل" مقارنة بالعرب، وافتقادها العمق الدفاعي. لذا، اعتمدت عقيدة "كل الشعب جيش" وإرهاب المحيط العربي لإجباره على عقد السلام مع "تل أبيب" والقبول بالاحتلال كواقع لا يمكن الفكاك منه.

لا يمكن إنكار نجاح "النظرية" في بعض المراحل خلال العقود الماضية، وإلّا لما كان المسؤولون العرب قد هرولوا نحو التطبيع، طبعاً من دون إغفال العامل الأميركي والأدوار التي يؤديها البيت الأبيض دوماً لضمان التفوق العسكري الإسرائيلي أو لإجبار الأنظمة العربية على القبول بوجود "إسرائيل".

في المقلب الآخر، ثمة عامل مهم أفسد تلك النظرية أو بالأحرى عطّلها. وقد برز نتيجة تفاعل 3 مواد:

المادة الأولى كانت الثورة الإيرانية عام 1979، التي حملت على عاتقها همّ القضية الفلسطينية منذ أيامها الأولى، معلنةً العداء للصهيونية، متحديةً في سبيل ذلك القوى الاستعمارية الغربية.

المادة الثانية كانت الفصائل الفلسطينية التي رفضت الانخراط في مسار أوسلو، مؤكدة ضرورة تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، وهي الفصائل التي تخوض اليوم القتال من قطاع غزة، وتمدّ أياديها لتخلق حالة مماثلة في مخيمات الضفة.

المادة الثالثة هي الأنظمة العربية التي رفضت الانخراط في مسار التسوية، والتي لم يتبقَ منها سوى النظامين السوري والجزائري بدرجة ما، إضافة إلى الشعب العربي ذاته في مختلف الأقطار، والذي تبنى خيار المقاومة بصرف النظر عن قرار حكوماته.

هذا التفاعل الحاصل بين المواد الثلاث تطوّر تدريجياً واختمر على مهل، حتى أنتج الحالة القائمة اليوم، التي أنهت نظرية الأمن الإسرائيلي بشكل شبه كامل، ونسفت مرتكزاتها الثلاثة، سواء كانت الردع أو التفوق الاستخباري أو الحسم السريع، ونقلت الصراع مع الصهيونية إلى فضاءٍ آخر، يصبح فيه الإسرائيلي تحت ضغوط وجودية، فهو مستهدف من "كريات شمونة" إلى "إيلات"، حتى سفنه القادمة عبر البحر الأحمر تصبح معرضة للإغراق أو القنص، كما حصل على مدار الأسابيع والشهور الفائتة.

خراب المستوطنات كمقدّمة لزوال الكيان

تعددت الإنجازات التي نجح معسكر المقاومة في تحقيقها خلال عملية "طوفان الأقصى" وما تلاها من معارك، وأهمها إجبار المستوطنين الإسرائيليين على هجر مستوطناتهم التي بنوها على الأراضي المحتلة، واستحلّوا العيش فيها لعقود. بدأ الأمر بمستوطنات غلاف غزة، ثم المستوطنات الشمالية، فمستوطنات الضفة الغربية.. والحبل على الجرار.

ما فعلته المقاومة خلال الفترة الماضية، رغم جسامة التضحيات، يرقى إلى مراتب مشاريع التحرير الجذريّة التي تستهدف اقتلاع الاحتلال من جذوره، وليس استنزافه أو إحباط مخططاته لإجباره على تقديم تنازل هنا أو هناك فحسب.

وأدلّ شيء على ذلك هو ارتفاع معدلات الهجرة العكسيّة وانهيار نظرية الملاذ الآمن، وما يكشفه الخبراء الإسرائيليون من تدني منسوب الثقة في "جيش" الاحتلال.

في نهاية عام 2020، كان عدد اليهود الإسرائيليين الذين غادروا الأراضي المحتلة قد وصل إلى 756 ألفاً، ثم قارب العدد المليون في نهاية العام قبل الماضي، وذلك وفقاً لبيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، فيما ارتفعت الأعداد بصورة ملحوظة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الفائت.

وتبعاً للتقارير التي بثتها القناة الثانية عشرة الإسرائيلية، فإن العديد من الإسرائيليين قدّموا طلبات لجوء إلى البرتغال. وقد اختاروا ذلك البلد في جنوب أوروبا، لأنه يسمح لليهود بالحصول على تأشيرات اللجوء، كما كشف موقع تأشيرة شنغن الأوروبي عن زيادة الطلبات التي يقدّمها إسرائيليون للحصول على الجنسية البرتغالية بنسبة 68%، والفرنسية بنسبة 14%، والألمانية بنسبة 10%، والبولندية بالنسبة نفسها.

وتشير الصحف الإسرائيلية إلى أن أسباب تلك التوجهات التي باتت تجتاح الشارع الإسرائيلي ترجع إلى فقدان المستوطنين الشعور بالأمان بسبب تطوّر عمليات المقاومة، إضافة إلى أسباب تتعلق بانهيار البنية الداخلية للمجتمع، تتصدرها التخوفات المتعلقة بتزايد اعتماد الحكومة على التيار الديني واليمين المتطرف، بما يخلّ بالطبيعة "العلمانية للمجتمع"، وذلك بمفهومها الحضاري والمعاشي لا العقدي أو السياسي بطبيعة الحال.

الأزمة المتعلقة بالهجرة العكسية وتفريغ أجزاء واسعة مِن المستوطنات الإسرائيلية صارت صداعاً يُلازم قادة الاحتلال، بقدر ما يمثّل غرق جنودهم في أوحال غزة نزيفاً مستمراً لما تبقى من دمائهم التي تجمدت في عروقهم طوال الأيام المئة الماضية.

في هذا السياق، أكدت "يديعوت أحرونوت" مطلع الشهر الجاري أن نتنياهو يعيش مأزقاً حقيقياً بسبب عجز حكومته عن إقناع سكان المستوطنات بالعودة إليها مرّة أخرى، سواء أكانت المتاخمة للقطاع أم على الحدود مع لبنان، وأن "المجتمعات الإسرائيلية" التي نشأت في تلك المستوطنات تفككت بأكملها، وأن البنية التحتية فيها لم تعد صالحة بعد، مع إشارة إلى أن الأضرار يمكن أن تصل إلى نحو 5.5 مليار دولار.

الدرس المهم هنا، هو أنه في الوقت الذي تضاعفت المستوطنات 3 مرات منذ اتفاقية أوسلو في الضفة الغربية والقدس الشرقية، فبفضل المقاومة والعمل المسلح المنظّم الخارج عن ضوابط وأعراف أوسلو، تم إجبار العدو على تفكيك مستوطناته مرة من قطاع غزة ذاته عام 2005، ثم مرة أخرى عام 2023 بفضل صواريخ المقاومة وعمليّاتها الظافرة.

يقول فيلايانور إس راماشاندران، وهو عالم أعصاب هندي أميركي، "إن السياسة والاستعمار والإمبريالية هي أمور تنشأ أيضاً في الدماغ البشري". ومما لا شك فيه أن أعظم ما فعلته المقاومة اليوم هو قدرتها على تحرير الدماغ العربي، وأنها أعادت للأجيال الجديدة الإيمان بإمكانية تحرير الأرض المحتلة، كما أنه، وربما للمرة الأولى منذ عقود، يلمس العربي ضعف "إسرائيل" بيديه، في الوقت الذي تنفضح حقيقة الكيان أمام العالم كقوة غاشمة نازيّة الطابع.

هنا تكتمل الصورة التاريخية التي يكون عليها الاحتلال (أي احتلال) قبل زواله، إذ تقوم على معادلتين، الأولى في الداخل، حين يتجاسر الشعب الواقع تحت الاحتلال على أعدائه، ويشعر بوَهنهم، ويؤمن بإمكانية استرداد حقوقه المسلوبة؛ والأخرى في الخارج، حين يُكشف الستر عن الممارسات الإجرامية للاحتلال أمام العالم، ويحتشد الكل في مواجهته. وقتها، يشعر المُحتل بدنوّ أجله بالشكل الذي يدفعه إلى ارتكاب جرائم جنونية، بالضبط كما يفعل اليوم في قطاع غزة، ولكنه حينها يكون قد شرع في حفر قبره!

 

السيد شبل ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل