إيران ... ضبط تكتيكي وفاعلية استراتيجية

السبت 20 كانون الثاني , 2024 10:07 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

لطالما كانت منطقة الشرق الأوسط هي المنطقة الأقل استقراراً والأكثر جاذبية على مستوى العالم كله. الصراعات في المنطقة لا تعود إلى اعتبارات داخلية فقط، فحجم التدخلات الخارجية في شؤون المنطقة هو العامل الأكثر تأثيراً. الثابت أن العالم لم يشهد أي شكل من أشكال الاستقرار منذ أن زرع الكيان الصهيوني كجسم غريب في المنطقة.

محاولة طمس الحقائق وتزييفها جعلت الدول العظمى تتحدث عن أن سبب عدم الاستقرار في المنطقة يعود إلى طبيعة الصراع فيها، لكونه صراعاً دينياً اكتسب صفة القداسة. وبالتالي، لا يمكن النقاش فيه، فيما هو في حقيقته صراع قانوني بين صاحب حقّ ومغتصب له.

لقد نجحت الدول الغربية في جعل أي نقاش حول إيران ودورها في المنطقة يبتعد عن العقلانية والموضوعية، وينتقل بصاحبه إلى العودة للبحث عما يفرق بدلاً من الحديث عما يجمع، وذلك يعود لأسباب كثيرة لا مجال للحديث عنها، كما أنها لا تخفى على أحد، حتى لو لم يكن متخصصاً في الشأن الإيراني.

إيران في قلب العاصفة 

لم ترَ الولايات المتحدة والدول الغربية أن إيران "دولة مارقة" ولا خارجة عن القانون الدولي إلا بعد قيام الثورة الإسلامية فيها، وهذا يعود إلى التوجهات الجديدة في السياسة الخارجية الإيرانية التي كرستها الثورة الإسلامية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

الموقف من فلسطين لم يكن موقفاً تكتيكياً ولا دعائياً، بل كان موقفاً مبدئياً ثابتاً أثبتت السنوات فاعليته وصدقه. قيام الثورة الإسلامية في إيران أعاد التوازن إلى معادلة الصراع العربي الصهيوني الذي تسبب خروج مصر في اختلاله في ذلك الوقت. ازدياد الدور الإيراني في المنطقة وفاعليته لم يكن هو الهدف بالنسبة إلى إيران، بقدر ما كان انعكاساً لحجم دعمها لحركات المقاومة على أرض الواقع.

المخاوف الأميركية والغربية والإسرائيلية بشكل خاص من ازدياد ما يسمى بـ"النفوذ الإيراني في المنطقة" تشير من دون أدنى شك إلى المكان الذي تقف فيه إيران، وأي محور تدعمه. لقد باتت إيران دولة إقليمية ذات قدرة ونفوذ، وهو ما يثير حفيظة أعدائها ويدفعهم إلى التحرك ضدها.

استهداف إيران لم يكن جديداً، فقد بدأ بعد أقل من عام على قيام الثورة الإسلامية عبر حرب كان الهدف منها استنزاف قوة العرب وإيران في الوقت نفسه. دعم محور المقاومة زاد من فاعليته وجعله قادراً على الاستمرار في مواجهة العدو الصهيوني وداعميه.

تلك المواقف جعلت إيران على أجندة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، اللتين سعتا دوماً إلى "شيطنة إيران" عبر حملة إعلامية كبيرة استهدفت كل ما يتعلق بالجمهورية الإسلامية. وقد ساعدتهم في ذلك دول رجعية وأنظمة عميلة ومعارضة لم تعد قادرة حتى على البقاء داخل إيران، بعدما رفضها المجتمع الإيراني ككل.

طوفان الأقصى وازدياد الضغط على إيران

الدعم والإسناد الفكري الذي تقدمه إيران لفكرة المقاومة وقضية فلسطين لا يقل أهمية عن دعمها اللوجستي لمحور المقاومة. الموقف الإيراني الداعم لحركة حماس والمؤيد لحق الشعب الفلسطيني جعل العالم يتحدث عن ضرورة الضغط على إيران أو حتمية التعاطي معها للوصول إلى تسوية في المنطقة.

دعم طهران لحركة حماس أنهى نوعاً من الجدل العقيم والسخيف حول فكرة "الصراع السني الشيعي" والاتهامات لطهران بدعمها لحركات المقاومة الشيعية فقط، وجعل الكثيرين يقارنون بين موقف كل من إيران "الشيعية" وتركيا "السنية" من القضية الفلسطينية ومدى تقدم الدور الإيراني وتطوره في هذا الاتجاه.

الحقيقة التي لا يريد الكثيرون إدراكها هي أن إيران اليوم باتت منتصرة في العديد من الملفات التي تدخلت فيها، بدءاً من العراق، مروراً بسوريا ولبنان، وصولاً إلى اليمن. هذا الواقع زاد من قوة الموقف الإيراني، وزاد من أوراق التفاوض التي بات يمتلكها. وبالتالي، كرس فكرة "ضرورة التفاوض مع إيران والكفّ عن سياسة الإملاءات في التعاطي معها".

كانت المملكة العربية السعودية أول من أدرك هذه الحقيقة وتعاطى معها ببراغماتية وواقعية، فكانت المصالحة الإيرانية السعودية برعاية الصين. هذه المصالحة باتت تنذر بتكريس واقع جديد في المنطقة قوامه التعاون والمنفعة بدلاً من التنافس الصراع.

هذا الواقع زاد من عزلة "إسرائيل"، وبدّد طموحاتها بقيادة تحالف إقليمي لمواجهة إيران ومنع امتلاكها السلاح النووي، ثم جاءت عملية طوفان الأقصى لتعرّي قوة الجيش الصهيوني، وتبدد طموحات الدول العربية الساعية للتطبيع مع "إسرائيل"، بذريعة أنها ستقف معهم لمواجهة إيران.

استهداف إيران

شهدت الآونة الأخيرة استهدافات ممنهجة لإيران، الهدف منها ثنيها عن دورها الإقليمي، وإجبارها على "تعديل سلوكها" أو "الانكفاء داخلياً" على أقل تقدير.

تلك الاستهدافات شملت الداخل الإيراني، إذ سعت الولايات المتحدة إلى إثارة القلاقل والاضطرابات ودعمها وتضخيمها إعلامياً، كما شملت استهدافات أمنية حملت بصمة الكيان الصهيوني وعملائه في الداخل الإيراني.

وبعد عملية طوفان الأقصى، وتوسع الحرب لتشمل اليمن ولبنان، ازداد الضغط على إيران لتؤدي دور التهدئة مع حلفائها في المنطقة. المطلوب من إيران ترك غزة تذبح وحدها، والتوقف عن تقديم الدعم لها وللأطراف التي تساندها.

ومنذ الخامس عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، تعرضت إيران لثلاثة اعتداءات كبيرة، إذ جرى هجوم على مركز للشرطة في محافظة سيستان-بلوشستان في جنوب شرقي إيران، وراح ضحيته 11 شرطياً على الأقل. وقد تبنى الهجوم جيش العدل الموجود في باكستان.

وفي الرابع من هذا الشهر، ولمناسبة إحياء الذكرى السنوية الرابعة لاغتيال القائد السابق لقوة القدس الجنرال قاسم سليماني، وقع تفجير إرهابي مزدوج استهدف زوار قبره في مدينة كرمان جنوب شرقي إيران، وراح ضحيته أكثر من 100 قتيل. وقد أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عنه.

جاء ذلك بعد مرور أسبوع فقط على اغتيال "إسرائيل" الجنرال رضي موسوي، وكذلك بعد يوم من اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) صالح العاروري، المعروف بقربه إلى القيادة الإيرانية، وبأنه يمثل همزة وصل بين حلقات محور المقاومة في لبنان.

الرد الإيراني

تلك العمليات استوجبت أن يكون هناك رد إيراني سريع على منفذيها (جيش العدل في باكستان- "داعش" في سوريا- "إسرائيل"). لذا، قامت إيران بقصف تنظيم "داعش" الإرهابي في إدلب، ونفذت هجوماً صاروخياً استهدف مقراً للموساد الإسرائيلي في أربيل، وكذلك هجوماً على ميليشيات جيش العدل الموجودة في باكستان.

سوريا من جهتها لم يصدر عنها أي بيان يشير إلى قلقها مما قامت به طهران في مدينة إدلب، بمعنى أنه ربما كان هناك تنسيق مسبق بين البلدين.

الحكومة العراقية من جهتها وجّهت انتقادات لما قامت به طهران، ورفعت وزارة الخارجية العراقية مساء الثلاثاء 16 كانون الثاني/يناير شكوى ضد إيران إلى مجلس الأمن الدولي، على خلفية الهجوم الإيراني بـ11 صاروخا بالستياً على مدينة أربيل في إقليم كردستان العراق، والذي أدى إلى مقتل 10 مدنيين، بينهم رجل أعمال كردي بارز يدعى بيشرو دزيي مقرب إلى عائلة رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني.

الانتقاد الأكبر لما قامت به طهران جاء من باكستان التي أعلنت استدعاء سفيرها من طهران، والطلب من السفير الإيراني لديها البقاء في إيران، ثم جاء الرد العسكري الباكستاني الذي استهدف مواقع لمجموعات مُسلحة مناهضة لباكستان داخل إيران. تلك التوترات تشير إلى مخاطر كبيرة في المنطقة، رغم أن كل المؤشرات تشير إلى رغبة كلا البلدين بعدم توسيع الحرب. 

حرب الفعل ورد الفعل

ما حدث بين إيران وباكستان هو نوع من التوتر الذي "يجب أن يحدث ربما، لكنه يجب ألا يتكرر أو يستمر"، فالبلدان جاران، وتربطهما روابط تاريخية وعلاقات حسن جوار يشوبها بعض التوترات الطبيعية بين أي دولتين متجاورتين.

الفعل الإيراني كان يجب أن يحدث، انطلاقاً من حجم الضغط الذي تعرضت له طهران في الآونة الأخيرة. طهران وجدت نفسها مطالبة بإظهار جدية أكبر، وعدم التهاون مع أي تهديدات لأمنها القومي.

الرأي العام الإيراني أسهم في جعل صانع القرار يقدم على ما أقدم عليه، استجابة لمطالب الشارع، وإدراكاً منه لأولى واجبات الدولة، وهي الحفاظ على وحدة أراضيها وأمن مواطنيها. 

رد الفعل الباكستاني جاء من منطلق الدفاع عن سيادة الدولة أيضاً ومنع التدخل في شؤونها الداخلية؛ فباكستان أيضاً تجد نفسها مطالبة بإظهار نوع من الحزم والصلابة، فهي تملك تاسع أقوى جيش في العالم، إضافة إلى أنها الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك سلاحاً نووياً. 

كما أن لباكستان خلافات حدودية مع الهند. لذا، فهي مطالبة بإظهار الحزم لردع أي دولة عن التفكير في التدخل في شؤونها الداخلية. ورغم التصعيد والتوتر الشديد بين البلدين، فإنَّ تصريحات مسؤوليهما تنبئ بعدم تطور الصراع بينهما.

البلدان بحاجة إلى تقريب وجهات النظر بينهما، وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني بينهما، وصولاً إلى بناء الثقة وتكريس سياسة حسن الجوار. يبدو أن الفاعل السياسي في كلا البلدين يتمتع بالعقلانية والقدرة على الفعل والابتعاد عن ردود الأفعال، وهو ما يزيد فرص نجاح أي وساطة بين البلدين، ودخول الصين على خط الوساطة يزيد احتمال نجاحها، نظراً إلى ما تتمتع به بكين من علاقات مميزة مع كلتا الدولتين. 

ختاماً، يبدو أن الرد الإيراني كان اضطرارياً، ليحمل رسائل سياسية لأعداء طهران، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية و"إسرائيل". بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تسعى إيران إلى إبراز مدى فاعلية وقدرة قوات حرس الثورة على ضرب القواعد والمنشآت العسكرية الواقعة قرب مطار أربيل الدولي، على بعد أميال قليلة من قاعدة رئيسية للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، واختيار إدلب يشير إلى أن إيران تريد أن يعي خصومها مدى قدرة صواريخها البالستية على الوصول إلى مواقع مختلفة في "إسرائيل"، مثل "تل أبيب" وحيفا.

أما استهداف أربيل، فهو رسالة مفادها أن إيران لديها معلومات كافية عن نشاط الموساد الإسرائيلي وعملائه في الخارج، وأنها قادرة على توجيه ضربات مؤلمة إليه إذا اقتضت الضرورة ذلك.

 

شاهر الشاهر ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل