عن احتلال ليس كأي احتلال... وحرب ليست كأي حرب

الأربعاء 31 كانون الثاني , 2024 09:29 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

مشكلة الكتابة عن غزة الآن أنها متفرعة. الأصعب أن الجرح الغائر والعميق لا يزال مفتوحاً ويتوسع، فيبدو الحديث متشعباً. مع ذلك، لا بد من استدراكات مهمة وسط المعركة كي لا نمضي إلى المجهول. عند هذه النقطة تحديداً، من المهم الإجابة عن سؤال أساسي: لماذا نشعر بأن عدوّنا متقدم في مكان ما، وأننا نخوض غمار رد الفعل بتعب متواصل ومن دون أفق؟

هذا يوجب طرح مجموعة أسئلة أساسية: من يفكر؟ ومتى؟ وكيف؟ إذا نظرنا إلى "إسرائيل"، فهناك مثلاً: مؤتمر هرتسيليا الدوري، ومعهد دراسات الأمن القومي، ومركز بيغن السادات للأبحاث الإستراتيجية... وغيره، المعلن وغير المعلن، فضلاً عن دوائر التفكير والتخطيط في أجهزة الأمن. 

كلّها ماكنات فكر ومراكز تخطيط تجد أذناً صاغية لدى صانعي القرار. لذلك، نلمس "فائضاً" في الأفكار أو حتى تصورات لم تخطر على بالنا أو لم نفكر فيها من قبل، مع خطط جاهزة أو شبه جاهزة تُطلب وتُسلم في حالات الحرب، وحتى السلم. في المقابل، ماذا لدينا؟

ينقل زميل يعمل في أحد مراكز الدراسات "الصاعدة" في بيروت تلخيصاً لما حدث في "7 أكتوبر" وما بعده. تقوم فكرته على أنها المرة الأولى التي نهجم فيها. ومن تعوّد منطقَ الدفاع، فسيصعب عليه إكمال الهجوم بالنسق الأول نفسه حتى النهاية. قد يحمل التحليل السابق - على بساطته الأولية - عمقاً ما، لكن حجم ما يحدث في غزة من كارثة، وفتح النقاش الفلسطيني الداخلي ومقارنة ما يجري بما وقع سنة 1948 والسؤال: ما الأسوأ؟ كل هذا يجعله وصفاً قاصراً عن شرح ما يحدث.

هناك نقطة رئيسية في الإجابة: نحن لم نكن في يوم ما مستعمرين، ولا نستطيع أن نفكر بعقل المستعمر. لذلك، وبقدر ما يمكن أن نمتلك من قوة معنوية أو مادية، لن يصل أفق تفكيرنا إلى المستوى المادي الإلحادي الإبادي الشوفيني... الذي نشاهد اليوم ظواهره وتطبيقاته بالصوت والصورة!

أيضاً، هناك استدراك آخر. ليس بالضرورة أن ينجح الإسرائيلي في كل ما يخطط له بالكامل أو حتى النهاية، لكن هذا لا ينفي مبدأ وجود الخطة والسعي إلى تطبيقها، وهذا ما سنحاول استكشافه هنا. أحياناً، يكفي منا الصبر و"تسجيل النقاط" لقلب الصورة.

إذن، لنعد إلى العقل الإسرائيلي قليلاً. لا نودّ التفصيل في العقل الأميركي أو الأوروبي الآن، فهذا الموضوع لا ولن يتسع. ربما من الجيد أن نتعامل مع المشكلة القائمة الآن بصورتها البسيطة: صراع فلسطيني-إسرائيلي، حتى لو مرحلياً، وذلك لفهم الفصل الأول من القصة.

المستشفيات والمقابر والنخب

سنعطي أمثلة متعددة المستويات عن السلوك الإسرائيلي الحالي قبل أن نصل إلى استنتاج أو خلاصة. سنبدأ من إجراءات تكتيكية أولاً، ثم نعرض نماذج إستراتيجية. في الإجراءات، تبرز قضية المستشفيات. إن الهجوم على المكان الذي يعالج فيه الجرحى، والذي يمكن أن يحول بين الإنسان والوفاة، يعطي إشارة جوهرية عن طريقة التفكير الصهيونية.

باختصار: لا حق - إسرائيلياً - في الحياة للفلسطينيين، أياً كان تعريفهم، وهذا نابع من الثابت الأساسي لدى "إسرائيل": "العربي الجيد هو العربي الميت". كان من اللافت كمّ التحريض الذي استهدف المستشفيات قبل الهجوم عليها. حتى تلك المطالبة التي قدمها "أطباء" إسرائيليون وبرروا فيها الاستهداف توضح إلى أي مدى تتخطى هذه الحرب فكرة حرب الوجود أو مجرد "الحق في الدفاع عن النفس".

ربطاً بقضية المستشفيات تأتي سرقة جثث الشهداء. خليط من الأهداف الطبية والعسكرية والأمنية أدى إلى هذا الاعتداء. إنه - بلا شك - نابع من العقلية الاستعمارية نفسها التي تتعامل مع أجساد الفلسطينيين - أو العرب - سواء كانوا أحياء أو أمواتاً على أنها "شيء" يمكن أن يمتلكه المستعمر للتجارة أو للتجربة أو للمقايضة أو حتى لمجرد سجنه، كما حال "مقابر الأرقام"! 

صحيح أن الاحتلال سعى بعد أسابيع على هذه "الفضيحة" التي مرّت كغيرها في الإعلام الغربي إلى تقديم ذرائع، لكنها كلها "حكي إعلام". كانت الذريعة هي البحث عن جثامين أسرى إسرائيليين، والنتيجة هي نبش قرابة 16 مقبرة في القطاع. لقد كانت كذبة كبيرة (الكذب تحول إلى أسلوب عسكري وأمني في هذه الحرب)، فالنبش وسرقة الجثث بدآ من مجمع "الشفاء" الطبي. 

تلفت مصادر فلسطينية مواكبة إلى أن "إسرائيل" - ضمن سلسلة أهداف - تريد حجز جثامين قادة شهداء ومقاومين لمبادلتها برفات الإسرائيليين لاحقاً. تريد "تل أبيب" صنع مخزون من الجثامين من أجل أن تكون "المقايضة" مقبولة لديها لاحقاً، وألا يبادل الأموات بالأحياء! ثم جاءت ذريعة أن جزءاً من الأنفاق يبدأ أو ينتهي من المقابر (الكذب متواصل ولا يتوقف).

على صعيد النخب، بات واضحاً أن الاغتيالات لم تطاول المسؤولين الفصائليين والحكوميين على وجه الحصر. كان هناك قتل متعمد لقامات وكوادر فعالة علمياً وأكاديمياً ومجتمعياً. هو تكرار لتجربة "علماء العراق" بعد الغزو الأميركي. فعندما يفقد مجتمع ما عماد النخبة، يُفسح المجال لمن هم أقل كفاءة، والنتيجة معلومة سلفاً، رغم الاستثناءات الكبيرة في الحالة الفلسطينية.

بعض الاغتيالات طاولت كوادر طبية وتمريضية، لأنها بقيت تخدم شهرين متواصلين في المستشفيات بلا رواتب وبلا راحة. عندما عاد بعض هؤلاء إلى بيوتهم بعدما قضى الاحتلال على أماكن خدمتهم قُصفوا مع عائلاتهم؛ لا بد من ضرب نماذج الإيثار والتضحية! كذلك، يأتي الإعلاميون في الفئات المستهدفة، وهناك فئات أخرى لم يتكشف غبار المعركة بعد عنها.

ربما ما سبق ليس إلا تفاصيل أمام حرب كبرى، لكنها تكشف أن الخطة المعدة لغزة ليست وليدة اللحظة ولا نتاج الغضب أو الصدمة حصراً، إنما هي "مقرر" شبه أكاديمي لكيفية القضاء على مجتمع. كيف لا والاحتلال هو نفسه من كان يحسب في مرحلة "الحصار" السعرات الحرارية اللازمة ليبقى الغزيون على قيد الحياة؟

ثلاثة نماذج عمل كبرى

إذا ذهبنا إلى تكبير الصورة، فلدينا ثلاثة نماذج عمل واضحة وكبرى لهذا التصور الصهيوني بالصفات التي ذكرناها:

النموذج الأول: خطط التهجير (ليست خطة واحدة)

جرى تجريب أسلوب الصدمة في بداية القصف المكثف والعنيف، ثم الترهيب النفسي بالمنشورات والبيانات المرئية، ثم فكرة تقسيم المربعات السكنية إلى "آمنة" و"غير آمنة"، ثم التوغل البري والاعتقالات (قضية الأسرى الغزيين تستحق بحثاً منفصلاً) والنفي المتواصل إلى أقصى جنوبي القطاع... وهلم جراً. 

هذا المسار كله يتصل بمجموعة بروتوكولات، منها القديم ومنها الجديد أو المبتكر. وواضح فيها اللمسات الأميركية على وجه الخصوص، لكنها تنبع من فكرة "شيطانية" في بال بنيامين نتنياهو منذ سنوات، وتتصل بالأزمة الديموغرافية في عموم فلسطين، والخطر الذي يمثله الفلسطينيون في هذا الجانب.

في الأساس، لا بدّ من معادلة الكفّة لترجح يهودياً قبل أن تحلّ سنة 2026 ويرجح الميزان فلسطينياً. المطلوب هنا إخراج مليون إلى 1.25 مليون فلسطيني من غزة بالحد الأدنى. إذا لم يحدث ذلك، فعلى الأقل خروج 500 ألف طوعاً أو جبراً لجبر النقص اليهودي المستجد: 350 ألفاً خرجوا من فلسطين المحتلة، ولا يعرف كم سيرجع منهم، وقرابة 180 ألفاً نازحون لا يعرف متى سيعودون وكيف (هل رأيتم كيف يفكر المستعمرون مع أنهم وسط "معركة دفاعية-وجودية"!).

النموذج الثاني: ورقتا المساعدات والإعمار للابتزاز و"التعديل"

بتتبع دقيق لمسار دخول البضائع إلى غزة في زمن الحصار، ثم منعها (تحريمها بالمصطلح التوراتي) في بداية الحرب، ثم السماح بإدخالها بصورة مقننة جداً خلال الحرب، يمكن الاقتراب أكثر فأكثر من فهم كنه العقلية الصهيونية، لكن هذا ليس الأخطر، إنما ربط المساعدات بالملف الأول: الهجرة، أي سيكون البقاء في غزة مرتبطاً تماماً بالاحتلال الذي سيقنن سبل الحياة إلى أضيق مستوى لتقتصر على الطعام والشراب، وكل من يريد ذلك، فعليه أن يطيع "إسرائيل".

لأن "الجيش" الإسرائيلي لم يجد حتى الآن شخصيات فلسطينية تتعاون معه في توزيع المساعدات، خصوصاً في شمالي القطاع (لو وجد، فسيصنّفهم شعبنا بكل بساطة وعفوية أنهم "جواسيس")، فقد بات يستهدف المدنيين المتوجهين لتلقي المساعدات التي يلقيها بنفسه في منطقة الشيخ عجلين. الهدف من هذا المشهد إحداث أكبر ضرر نفسي ممكن للضغط على الجمهور وقبول التنسيق المباشر معه.

في المحصّلة، يريد الاحتلال خلق قائمة من شخصياتٍ من مدينة غزة تتعاون معه الآن ليعطيها في المستقبل الأولوية لإدارة شؤون القطاع عبر الحكم الأمني-المدني الذي يريد صناعته. ويجدر الانتباه إلى أن "إسرائيل" اغتالت مندوب السلطة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية في غزة قرب ملعب اليرموك أثناء محاولته توزيع المساعدات، ما يعني أنها تحتاج حصراً إلى شخصيات تعمل بأمرها مباشرة، ثم تدرس إدماجها في السلطة، على أن تظل تابعة أمنياً لها (تعديل لتجربة الضفة).

أما في ملف الإعمار، وبجانب "المنطقة العازلة" بعمق 650 متراً (حالياً) التي ستأكل من القطاع مساحة قد تصل إلى خُمسه بالحد الأدنى، وسيُحرّم فيها البناء أو الزراعة، فلم يتضح مسار الملف، ولا حديث عنه إلا قليلاً. مع ذلك، وبفهمنا العقلية الصهيونية في هذه الحرب، نكتشف أن الاحتلال لا يريد أي إعمار في المنظور القريب، أي أن تبقى العملية في مدى عشر سنوات على الأقل.

الأخطر أيضاً أنّ الاحتلال يريد إعماراً يمنع "إعادة إحياء المقاومة" (نموذج إعمار جنين بعد 2002)، مع إبقاء المجتمع في حالة نزوح. وقد تنطلق "إسرائيل" من هذا الملف في تشغيل عمال القطاع بدلاً من استجلابهم إليها، أي أن تنشغل غزة بنفسها وبإعمارها.

ثمة مثال عملي واضح على منع "إعادة إحياء المقاومة" هو ما يجري في المستوطنات السابقة المحيطة بخان يونس من الغرب والشمال والشرق، وتحديداً مجمع "غوش قطيف" السابق، حيث يعمل الاحتلال على قصف أو نسف مربعات كاملة في المناطق ذات الكثافة السكانية، كالبطن السمين أو المعسكر وحي الأمل. 

يمكن تسمية هذا السلوك تحويل "الإعمار المقاوم" إلى "إعمار عابر"، وذلك بتفريغ المستوطنات السابقة من القواعد العسكرية للمقاومة، وتجريف الأراضي الشرطية ومواقع التدريب، بالتوازي مع هدم مربعات سكنية كبيرة (إذاً، هو ليس نسفاً عشوائياً) وإحداث توسيعات في المناطق ذات الكثافة العالية لنقل الناس إلى أحياء ذات عمران متسع وغير مقاوم، وهذا كله لتسهيل السيطرة المستقبلية على قطاع غزة، وإمكانية الاقتحام البري والهندسي والاعتقال إذا دعت الحاجة.

النموذج الثالث: ضرب البنية التحتية ومنع تشكيل هيئات مدنية

في بداية الحرب، كان الإعلام يصف ما يجري من تدمير للبنية التحتية بأنه قصف عشوائي أو فعل متصل بالجنون، لكن بعدما اكتملت صورة التخريب ظهر أن ما حدث ليس إلا خطة أيضاً.

في هدف مرحلي، يعمل الاحتلال على تدمير منافذ الحياة في القطاع لدفع الحاضنة الشعبية إلى السخط على "حماس" والمقاومة وقبول أي حل لإنقاذها. هذا المخطّط بدا ظاهراً من اليوم الأول، وهو يواصل تطبيقه الآن، وما قطع تمويل "الأنروا" إلا في سياق إغلاق المنافذ الإغاثية والتشغيلية.

الهدف المتوسط هو منع "حماس" من إعادة تكوين أي من قواعدها العسكرية أو حتى البنى المدنية الإدارية، ويتطلب ذلك سيطرة تامة على مفاصل القطاع، وإقامة قواعد عسكرية شبه دائمة على الأطراف ضمن ممرات أمنية واضحة وممشطة من أي مخاطر، والاستمرار في بناء المنطقة العازلة، مع أن كل هذا لا يأتي بحل بالنسبة إلى "إسرائيل" أو بإجابة عن سؤال اليوم التالي للحرب.

إن خبراً صغيراً مثل إعادة تشكيل بنية الشرطة المدنية في الشمال كان مزعجاً أيضاً لـ"إسرائيل"، فالهدف النهائي هو أن يكون الإعمار بعد الخراب الكبير ورقة من أوراق التفاوض، وفي العمق، أن تمثّل "السيوف الحديدية" صدمة للمجتمع الغزي لكي لا يحاول تكرار "7 أكتوبر" أو ما يشبهها. أيضاً، إن إعدام المؤسسات التعليمية والتشغيلية سوف يدفع أصحاب الشهادات والخبرة إلى الهجرة الجبرية المغلفة بعنوان "الطوعية".

إذن، هكذا تفكّر "إسرائيل" في التكتيكات أو الإستراتيجيات. كل فعل متصل بسلسلة أفعال تنبع من نظريات مستوردة أو هجينة أو مبتدعة، فما يحدث ليس حرباً لا دفاعية ولا ردعية، وليس حتى إعادة احتلال للقطاع أو استيطان له، بل هندسة استعمارية تريد تغيير الجغرافيا والديموغرافيا وكل شيء في أبشع صور الاحتلال وآخرها. إنه فعلاً ليس أي احتلال، وهذه الحرب ليست كأي حرب، لكن أيضاً هذه المقاومة ليست كأي مقاومة، وما الرشقة الصاروخية على "تل أبيب" في اليوم الـ115 للحرب سوى مشهد سوريالي من اللوحة.

خاتمة وخلاصات

إنّ كل ما تقدم من تفكيك للفعل الإسرائيلي ووضعه في سياقات نظريات الاستعمار هدفه إظهار حجم ما يواجه الفلسطينيين، وهو فعلاً تحدٍّ كبير لا يواجه وجودهم فحسب، أي البقاء بالمعنى البيولوجي، وإنما إعادة تعريف الذات واتخاذ قرار حاسم بشأن ما ستكون عليه حياة أبنائهم وأحفادهم في السنوات المئة المقبلة.

ورغم قتامة المشهد من جوانب عدة، فإن أجمل ما في الأمر هو وضوح الصورة. نعم، وضوح الصورة مريح جداً حتى للضحية؛ فبعد 75 سنة صارت قضية فلسطين ومظلومية أهلها وأرضها أنصع من بياض الثلج. العالم والمنظومة العربية، وحتى "إسرائيل" نفسها، كلهم ظهروا بصورهم الحقيقية والكاملة من دون أي تجميل لفظي أو صوري، وكم يريحنا ذلك - نحن الفلسطينيين - من عناء الصياغة والشرح... وأحياناً الكتابة، لو مؤقتاً!

حتى المفترق الأخير، الذي حمل مسمى "محكمة العدل الدولية"، انتهى كما يجب أن ينتهي. إنَّ المفاجأة كانت أن يصدر ما يدين "إسرائيل" وليس العكس! حتى رام الله استراحت من عناء التفكير أو التهديد اللفظي بالذهاب إلى هذه المحكمة. نعم، مشكورة جنوب أفريقيا حقاً، لا لأنها وقفت معنا فقط، بل لأنها تجرأت وتحدّت (لا شك في أنهم سيدفّعونها ثمناً، فلنراقب). المهم: ثبت أن لا جدوى إلا للقتال "غير السلمي".

المضحك المبكي أن التاريخ يريد أن يكمل الفصل (الأخير؟) من تراجي-كوميديا المجتمع الدولي. لم تمرّ أيام على "حكم" المحكمة حتى جاء قرار قطع التمويل عن وكالة الغوث لمجرد "اشتباه" بوجود موظفين فيها شاركوا في "7 أكتوبر". طبعاً، قدّم الإسرائيليون الخبر كأن هؤلاء هم قادة العملية. جميلة هذه التوليفة: موظف في مؤسسة دولية وقيادي في المقاومة! كأن الوكالة كانت جمعية خيرية لا مؤسسة خاضعة لأجندة.

في المعلومات هم ليسوا إلا 15 شخصاً بعقود مؤقتة، عدد صغير جداً من بين عشرات آلاف المدرسين والممرضين، وأصلاً غير موظفين، وغالبيتهم نشروا منشورات تأييد، لكن المشكلة ليست هنا، بل في فكرة استسلمنا لها، وكان يلخّص نقيضها بعض "المثقفين المشتبكين"، ومنهم الشهيد باسل الأعرج وقبله غسان كنفاني. تقول الفكرة المضادة: "الفلسطيني مدني وإن حمل السلاح، والإسرائيلي مُستعمِر وإن كان يستجم على الشاطئ". 

نعم، كلّ مقاتلي الفصائل مدنيون أُجبروا على حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم، وهكذا يجب أن نفهم أنفسنا قبل أن يكون الأمر شرعة دولية، لكي نكون متصالحين مع ذواتنا أولاً. في المقابل، كلّ إسرائيلي، مهما كان توصيفه، هو مستوطن صهيوني، وما إن يخرج من فلسطين، فقد يمكن التعامل معه بغير صفة.

في قضية "الأنروا"، ثمة بُعد خفي يتخطى فكرة الضغط على الفلسطينيين بحرمانهم آخرَ فرصة من المساعدات وربطها كلها بالاحتلال، كما ذكرنا. تسعى "إسرائيل" إلى استثمار "فرصة تاريخية" للتوطين بذريعة "خطيئة 7 أكتوبر"، والضغط على المنظومة العربية لحل مشكلتين معاً: استيعاب اللاجئين السابقين منذ 1948 و1967، وحبذا - الثانية - مهجّرو غزة.

هذا كله ناتج أيضاً من "خطة" يجب أن نعترف - بكل أسف - بأنها عبقرية. لقد جرت منذ اللحظة الأولى لعملية "طوفان الأقصى" استعادة الهولوكوست واستحضار "داعش". كانت عملية ضغط للمسميات وتحشيد اصطلاحي قادته كبريات وسائل الإعلام وإمبراطوريات الميديا. لقد كنا، ولا نزال، ضعافاً أمامها، إلا من نافذة وسائل التواصل الاجتماعي التي استطاعت الشعوب للمرة الأولى أن تحولها من سلاح سيطرة إلى وسيلة فعل.

أيضاً، هذه مجموعة ملاحظات أخرى لا بد من الالتفات إليها، بل من حفرها في وعينا بعمق، وبعضها تصلح لتكون موضوعاً مستقلاً:

· "7 أكتوبر" لم يكن إلا شرارة لإشعال الجنون الغربيّ الكامن منذ أن وطئت بريطانيا وفرنسا المنطقة.

· "إسرائيل" هي أسوأ ما أنجبته نظريات الاستعمار القديم والحديث وما بعد الحديث.

· العَقد الاجتماعي الإسرائيلي (دولة الرفاهية، الدم اليهودي غالٍ...) انفرط ولا يمكن ترميمه.

· لن تقف انعكاسات النكبة المستجدة في غزة على "إسرائيل"، بل ستطاول الولايات المتحدة وأوروبا.

· يشهد التاريخ كل مئة سنة تقريباً ذروةً ما تنتهي بتغير كبير في المنظومة العالمية، والذروة الأخيرة كانت بدايتها الحرب العالمية الأولى (1914-1918 مقابل 2017-2028)، وتلتها مرحلة استعداد وحشد، لتصل قمّتها في الحرب الثانية (1939-1945 مقابل ؟-؟)، فهل اقتربنا من الذروة الجديدة؟

إن المنتظر من الفلسطينيين لن يكون الاستسلام ولا ما يشبهه، بغض النظر عن أي مخرجات سياسية أو مجتمعية حالية، والرهان هنا ليس على "وطنية" الفاعلين في القضية بقدر ما هو على "نذالة" العدو ورفضه أي حلول مؤقتة أو أنصاف حلول، وهو ما يضمن تجديد الصراع، بل أخذه إلى مدى أبعد مما عليه الآن.

أخيراً، وربما في يوم قريب، تستفيق "إسرائيل" من الصدمة، وتنتبه إلى أن ما فعلته كان "خطأ إستراتيجياً". فلو كان هناك عاقل يحكمها - لم ولن يكون، لا عملياً ولا نظرياً - لاتخذ من "7 أكتوبر" فرصة ليقلب مسار التاريخ ويتحايل على السنن الكونية، فيجلس إلى "طاولة واحدة" مع المقاومة من دون أي وسيط، وينهي الصراع مرة أخيرة وإلى الأبد، لكنْ يأبى المستكبرون الحق أو على الأقل الحقيقة.

 

عبد الرحمن نصار ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل