إضرابات في "الجنّة الضريبية" ـ عدنان الساحلي

الجمعة 03 أيار , 2019 09:30 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

لم يكن مفاجئاً إشتعال الشارع اللبناني بالتظاهرات والإضرابات وإقفال الطرق والمرافق العامة، طوال الأيام القليلة الماضية، فما جرى كان نسخة عن "بروفة" شهدها الشهر الفائت، بل أن شهراً لا يمر إلاّ وتتخله إضرابات واعتصامات مطلبية لفئات شعبية أغلبها من موظفي الدولة، يرفعون الصوت إحتجاجا على ظلم واقع عليهم هنا، أو تجرؤ فوقي على رواتبهم وحقوقهم المكتسبة، أو تعنت في توظيفهم أو تثبيت تعاقدهم المستمر منذ سنوات.

لكن الجديد هذه المرة، أن الحكومة لم تتمكن، كما في السابق، من التهرب من تقديم موازنة أمام مجلس النواب، طال أمد إنتظارها، حيث لم تقدم الحكومات المتعاقبة موازنات منذ خمسة عشر عاماً، كان الصرف يتم فيها وفق القاعدة الإثنى عشرية المشهورة في الإقتصاد اللبناني النادر في توليفاته وفبركاته وفتاوى منظريه.

في موازاة ذلك، فإن حكومة سعد الحريري وهي ذاتها التي "طنشت" عن تقديم موازناتها السنوية معظم المرحلة السابقة، قررت عبر مسلسل من مؤتمرات باريس، ختمته بمؤتمر "سيدر"، إستكمال المسيرة الحريرية التاريخية بإغراق لبنان بالديون، حتى وإن باتت فوق طاقته على الإيفاء، المهم لديها هو توفر السيولة للصرف و"عمر ما حدا يورث". لكن لممولي "سيدر" شروط منها تخفيض عجز الخزينة وإجراء إصلاحات بنيوية في مالية الدولة، صحيح أنها ضرورية، لكنها تمثل "إنتداباً" جديداً مالياً على لبنان، هو بغنى عنه لو صدقت نوايا المسؤولين في وقف مزاريب الهدر والسرقة من المال العام عبر طرق وأساليب يعلم تفاصيلها الشارع اللبناني بأكمله. والأخطر في تلك الشروط، أنها صريحة في تمهيد الأوضاع لتوطين النازحين السوريين في لبنان، بالتوازي مع ما نضح من "صفقة القرن" الأميركية –السعودية في دعوتها لتوطين الفسطينيين بدورهم في أماكن نزوحهم.

وخضوعاً لشروط "سيدر"، قررت حكومة الحريري تقمص شخصية "رب العمل" الذي يتقشف، ليس بتخفيض مصاريفه وكلفة رفاهيته ورفاهية عائلته؛ ولا بتخفيض فوائد ديونه لمصارف يشارك في ملكيتها، بل بمد أيديه إلى رواتب موظفيه وبدل أتعابهم. وهو ما فعلته الحكومة بالتحضير لمد اليد إلى رواتب موظفي الدولة مدنيين وعسكريين ومتقاعدين، علماً أن الحكومة السابقة وهي نسخة عن الحالية، قامت بتوظيف الآلاف في السلكين المدني والعسكري، بشكل مخالف لقرار منع التوظيف الذي سبق أن أصدرته. في وقت تبدو موازنة الحكومة المقترحة، تتجاهل حتى الآن، تحصيل مال الدولة من الأملاك البحرية مثلاً؛ ولا تلغي بنود دعم الجمعيات الوهمية التي تملكها وتديرها زوجات المسؤولين وتستعملنها في المجهود الإنتخابي لازواجهن.

كذلك تخضع لضغوط "مافيا" المدارس الخاصة، الطائفية في معظمها، بإعطاء الموظفين منحاً تعليمية لتسجيل أبنائهم في المدارس الخاصة، عوض أن تكون تلك الزيادات من أساس راتب الموظف تعويضاً له عن التضخم الذي يأكل راتبه بشكل متواصل. ولا ننسى هنا ذكر الهندسات المالية التي قام بها مصرف لبنان لصالح بعض المصارف النافذة والتي كلفت المالية العامة مليارات الدولارات، كذلك تتناسى الحكومة ملاحقة التهرب الضريبي والإعفاءات الجمركية؛ ولا تعالج وجود رواتب خيالية لبعض المحظيين تفوق قيمتها بأضعاف راتب رئيس الجمهورية؛ وترعى تحويل رسوم ومداخيل إلى صناديق وجهات غير خزينة الدولة.

كل ذلك كان من إفرازات "الجنّة الضريبية"، التي حولت لبنان من وطن لإهله إلى مزرعة للمستثمرين ولغيلان التعهدات والصفقات، مقابل إفقار اللبنانيين وتجويعهم وتهجيرهم في بلاد الله الواسعة. وما نراه في شوارع لبنان عموماً والعاصمة تحديداً، خصوصاً تظاهر العسكريين المتقاعدين وإضراب مختلف قوى الإنتاج، هو أحد مظاهر إعتراض اللبنانيين على "جنّة المستثمرين" وإصرارهم على أن تكون دولتهم هي دولة الرعاية لا رب العمل المستغل.    


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل