مئوية دولة المقاطعجية ـ أحمد زين الدين

الخميس 27 آب , 2020 12:24 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

يبدو أن الجميع حينما يتحدثون عن أزمة تشكيل الحكومة، يتجاهلون، أن هذا النظام مترهل إلى درجة أنه لم يعد مولداً كل عقد ونصف من الزمن أزمة أو فتنة  أو حرباً أهلية وحسب، بل أنه هو نفسه صار أزمة قائمة ومستمرة تتوالد، كألتهاب في الجسد، إذا لم يجر معالجته بعمق من خلال جراحة استئصالية، سيكون مصير الدولة والوطن والناس مهدداً بخطر وجودي.

في الماضي، ماقبل الطائف، كان تنظير الحفاظ على وطن "الصيغة والميثاق"، ماقبل ذلك، كانت مرحلة الانتداب الفرنسي وإعلان الجنرال غورو "دولة لبنان الكبير" في الأول من أيلول من سنة 1920.

مع الانتداب، لم يتغير المطبلون مع كل غازٍ وفاتح، ولم يتبدل المزمرون مع كل قادر يطل من هنا أو من هناك.

السلوك الانتهازي السياسي في لبنان قديم جداً، هو منذ ما قبل القائم مقاميتين 1841، هل تذكرون الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير، أو الأمير بشير الشهابي الثاني، وكيف تنقلا في ولاءاتهما بين كل دول الدنيا في عهديهما والتي لا مجال لذكرها في هذه العجلة.

وحين وضعت الدولة العثمانية اتفاق القائمقاميين حيز التنفيذ عام 1841، قامت الخلافات بين الزعماء اللبنانيين حول اختيار القائممقاميين وتحديد صلاحيات كل منهما، وفي رسم الحدود بين الدويلتين وتدخل القناصل في هذه الخلافات، يناصر كل منهما الفريق المنضوي تحت لواء دويلته.

في زمن المتصرفية (1864 ـ 1914) لم يختلف الأمر، والكل صار يزحف نحو الباب العالي أو القنصل الاجنبي من أجل كرسي أو من أجل الحصول على لقب باشا أو بك أو أغا.

مع زمن الانتداب الفرنسي (1920 ـ 1943)، قد يسجل للفرنسيين بمكرمة على الساسة اللبنانيين لأنهم "لم يفضحوا الذين انقلبوا عليهم فيما بعد، بل أرسلت المفوضية الفرنسية سنة 1941 أوراقها وسجلاتها تحرقها في أتون النار، في هضاب بيت مري، كي لا تقع في أيدي الذين يأتون بعدها، ومن هذه الأوراق ذلك السجل الذهبي الذي يتضمن أسماء جميع الذين كانوا يخدمونها ويبيعونها البلاد في الخفاء، بينما يتظاهرون أمام الناس بالتجرد والنزاهة والوطنية المستقلة التي لا تقبل انتداباً".

وبلغ بالسياسيين اللبنانيين قديماً أو معظمهم التظاهر مع كل سيد، فحينما صار لبنان تحت الانتداب يقول اسكندر رياشي: "شاهدت في بيروت يومئذ، إلى جانب قبضايات الميناء الذين كان الفرنسيون قد ضمنوا تأييدهم أكثر ـ فرسان يرتدون البرانس البيضاء والحمراء والفساطين المزركشة، ويحملون السيوف المعكوفة، وقد كحلوا أعينهم بدائرة وسيعة من كحل الصحارى، يأتون يومياً على ظهور خيولهم المطهمة للمفوضية يتطوعون في الفرق المحلية العسكرية التابعة للجيش الفرنسي، لإثبات التأييد، وكان ذلك يجري بمواكب وهاجة فرحة مهللة، تحت قيادة زعماء معروفين من عمال عهد الفرنساوي الجديد في لبنان".

يضيف: "وكانت أروقة السراي الكبير تعج يومياً بهؤلاء الفرسان، وخصوصاً أمام باب المسيو مرسييه المستشرق الشهير المكلف حينذاك بقبول التطوع وبدفع الثمن.

وقد بلغت مصاريف هذه المواكب، تأتي لإعلان تأييدها، ما يفوق المليون ونصف المليون ليرة انكليزية. أخذها تقريباً ألف فارس ـ خرج راح ـ تعويضاً عن انزاعجهم في المجيء إلى بيرت من الشوف أو من الجبل ، ولكن كان يصادف أن كل فارس كان يأتي أكثر من خمس إلى عشر مرات في المواكب المتتابعة، التي ظلت أربعة أشهر تصل إلى بيروت يومياً بهزيج وتهليل.

ذلك أن المسيو مرسييه كان يكتفي بأن يحصي عدد الفرسان الذين يأتون دون أن يتبين الوجوه، وكانت أسماء الفرسان تتبدل يومياً، كما كانت الملابس، فلا يعرف مرسييه أو يتجاهل عمداً أن أكثر الذين جاؤوا بالأمس عادوا اليوم. وكان يكفي أن يعد المسيو مرسييه عدد الفرسان الذين يصلون إلى باحة السراي وخيولهم الهائجة التي كانت تحطم بلاط الفناء حتى يدفع على قدر العدد الذي يكون حسبه".

ويقول رياشي: "هذا الفساد مستأصل منذ زمن بعيد، منذ عهد الأتراك، عندما كان أهالي هذه البلاد يستعملون كل طرق الإرضاء والتملق لاكتساب عواطف أسيادهم العثمانيين وبدرجة حاذقة ووسيعة جداً، حتى لا نقول إنهم ألقوا دروساً على الأتراك في فن الرشوة والارتشاء والاستثمار".

يتابع: "وفي خلال الحرب الأولى، عندما حكم العثمانيون جبل لبنان مباشرة بعد أن ألغوا امتيازاته، رأينا هؤلاء الأتراك في جبل لبنان عن كثب، يأتوننا في البداية رجالاً مستقيمين إنسانيين وينقلبون بعد حين إلى وحوش كاسرة وفاسقين حرامية ـ وذلك عندما كنا نفتش عن اكتساب رضاهم بكل ما عندنا من حيل، وبكل ما عندنا من أسباب وطرق للأغراء، ولا أريد أن أقول إن الكثيرات من الحسان كن في رأس أنواع ذلك الإغراء مما يجري دوماً في كل بلاد يدخلها القوي ويحكمها فاتحاً. ولكن ما بولغ فيه أثناء الحربين الكبيرتين هو أن العدد الأكبر من مئات الحسان، كن يصلن إلى أسرة الأسياد الحاكمين الأتراك ومن بعدهم الفرنسيين والانكليز والاسترالية عن طريق الحنان الأبوي".

بعد الاستقلال لم يتغير شيء، فالخلفاء استمروا على طريق الاسلاف، ويحضرني ذاك القائد الذي أعلن يوماً في عز المعركة لإسقاط الرئيس بشاره الخوري: "جاء بهم الأجنبي فليرحل بهم الأجنبي"، مع أنه هو نفسه كان في الإنتخابات النيابية عام 1943 على اللائحة المدعومة من الانتداب الفرنسي، وإذا شئنا استعراض أسماء السياسيين الذين بدلوا مواقفهم وقناعاتهم، وكانوا ينتقلون من مكان إلى آخر، بحيث أن الإنقلاب على القناعات السابقة كان 180 درجة، لاحتجنا إلى كتاب مستقل بذاته، ولكن نكتفي بسرد بعض الأمثلة لتشير إلى تبدلات "أسياد" "السياسة" و"الحرب" والجري وراء السلطة والمال، فكميل شمعون، الذي أطلق عليه فتى العروبة الأغر، في أواسط الأربعينيات، كان رجل الانكليز الأول، وأول المنقلبين على بشاره الخوري.

والرئيس فؤاد شهاب يقدم وصفاً دقيقاً للسياسيين فهو "لم يكن يحتقر السياسة، إنما كان يحتقر تجار السياسة، وأكلة الجبنة الذين يعتبرون السياسة بازارات وصفقات ويمارسون الكذب، وكان هذا أكثر ما يمقته، كان يشعر بالمرارة حين يرى كثيرين من السياسيين لا يقيمون وزناً لفكرة الدولة ويبحثون دائماً عن حصتهم، ويلجأون إلى إثارة الغرائز والنعرات للوصول إلى موقع، وكان فؤاد شهاب يتوقع من السياسي أن يتصف بالمسؤولية الوطنية وأن لا يتردد في اتخاذ المواقف الصائبة حتى وإن بدت غير شعبية، وكان الذين يتصفون بهذه الصفات يعدون على الأصابع".

فإلى مزيد من وقائع دولة المقاطعجية


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل