الدولة السائبة  ـ عدنان الساحلي

الجمعة 06 تشرين الثاني , 2020 10:54 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

لطالما ردد اللبنانييون حكمة لم يتعظوا منها وهي أن الرزق السائب يعلم الناس الحرام. فدفعوا الثمن من حياتهم وأموالهم ومستقبل أجيالهم. خصوصاً عندما يكون هذا الرزق وطناً بكامله، سائباً بين أياد غير مسؤولة.

وأكثر ما يجعل هذا التسيب بالغ الخطورة، أنه نابع عمّا يسمى دولة وعن أشخاص يفترض أنهم مسؤولون. لتصل الأمور حد المهزلة عندما نجد أن الشعب ذاته لا يحاسب. وأذا قررت فئة منه أو شريحة معينة ذلك، فنكاية بأحد ما وليس سعياً وراء حقيقة غائبة. ولنأخذ نماذج من أخطر ما يواجه لبنان ويزيده التسيب خطورة، لعلنا بها نضع إصبع الحقيقة على جرح هذا التفلت النازف.

حدث إنفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي. وأعلن المسؤولون والقضاء المعني، أن نتيجة التحقيقات ستصدر بعد خمسة أيام، لمعرفة الفاعل والمسؤول عن الحادثة المهولة، مهملاً كان، أو بفعل جرمي. وها هي ثلاثة أشهر مرت والقضاء "يمغط" في التحقيقات والمسؤولون مشغولون بقضايا أقل أهمية. ولم نصل إلى حقيقة المسؤول عن كارثة أودت بمئتي ضحية وأصابت حوالى ستة آلاف شخص. ودمرت آلاف المنازل. وقدرت أضرارها المادية بما بين سبعة إلى ثمانية مليارات دولار أميركي. وحتى الآن باب المحاسبة مقفل. وكيف تحاسب مسؤولين سياسيين هم وزراء يمثلون قادة طوائفهم ومناطقهم. وكيف تحاسب موظفاً صغيراً أو كبيراً، طالما أنت عاجزعن محاسبة المسؤول عنه؟ بل كيف تحاسب إذا كان القضاء غير مستقل، بل يتبع للسياسيين الذين يوظفون القضاة في مناصبهم؟

وقررت الحكومة المستقيلة، برغبة شعبية وإصرار من رئيس الحمهورية، إجراء تحقيق مالي جنائي في حسابات مصرف الدولة، أي مصرف لبنان، من خلال التعاقد مع شركة مختصة، لمعرفة مصير أموالها وأموال اللبنانيين، التي نهبت وهربت إلى الخارج. لكن الموظف حاكماً على المصرف المذكور رفض تنفيذ القرار بحجة غير قانونية. ولا أحد قادر على محاسبته أو عزله من وظيفته أو سجنه. مما دفع رئيس الجمهورية إلى تكرار طلب "التزام الحكومة إجراء التدقيق الجنائي المالي" في حسابات المصرف المذكور. في حين حذر رئيس الحكومة المستقيلة "من محاولة الإطاحة بالتدقيق المالي الجنائي، لمنع اللبنانيين من معرفة حقيقة خلفيات إختفاء ودائعهم وأسباب الإنهيار المالي والتلاعب المدروس بسعر العملة الوطنية".

وإذا كان كبار المسؤولين يحذرون وينبهون، فمن الذي يقرر ويحاسب ويعاقب؟ ومن يحمي الناس وحقوقها من تسلط الفاسدين وتجبر الذين تعاملوا مع البلد على أنه مزرعة لهم ولعائلاتهم وأزلامهم، يملكون حق إستثمارها وبيعها ساعة يشاؤون؟ وما هي وظيفة نواب الحاكم ومفوض الحكومة المكلف مراقبتهم، هل هم شهود زور أو متواطئون وهم الذي قيل أن رواتبهم وتعويضاتهم توازي رواتب مائة ضابط في الجيش اللبناني؟

وكيف تحاسب حاكم مصرف لبنان، إذا كان كبار المسؤولين والزعماء السياسيين يتولون حمايته لأنه شريكهم في نهب أموال البلد والناس. وكيف تحاسبه وهو المتعاون مع الأميركيين في كل سياساتهم المالية تجاه لبنان، بداية برقابتهم على أموال اللبنانيين ووصولاً إلى العقوبات المتدرجة بحقهم، التي وصلت حد تجفيف لبنان من العملات الصعبة ومن الأموال الوطنية. وكذلك تغطيته لسرقة المصارف أموال مودعيها وتهريبها إلى خارج لبنان. بما أوقع معظم اللبنانيين في معاناة العوز وحتى الجوع.

وقرر سعد الحريري أن يكون رئيس حكومة، بشروط من قبله، أعلنها بوضوح. ونال على أساسها أدنى تأييد حصل عليه رئيس مكلف منذ عقود. كما أعطى نفسه مهلة عشرة أيام لتقديم تشكيلة حكومية بالتوافق مع رئيس الجمهورية. وقد مرت المهلة ولم يقدم تشكيلة ولم يحاسبه أحد، فكيف تحاسب شخصاً يعتبر نفسه الممثل الأكبر لمكون شعبي وطائفي؟ وكيف تحاسب زعيماً سياسياً يريد تحويل البلد إلى إمارة يحكمها وفق مشيئة الذين صنعوا له زعامته وهم بالتحديد النفوذ الأميركي والمال السعودي؟

وإثر حصول كارثة المرفأ بادرت دول صديقة وشقيقة إلى مد يد المساعدة. وكان من بينها أن أرسلت الشقيقتان العراق ومصر حوالى عشرة آلاف طن من الطحين. فوجىء الناس بان وزارة الإقتصاد خزنتها في أماكن غير مناسبة، وفي ظروف غير صحية، وكأنها نفايات وليست لصناعة رغيف الناس. في حين أن أصحاب الأفران كانوا منذ أسابيع قد قرروا الإضراب لفرض رفع سعر الخبز. وقد رفعوه سعراً وخفضوه وزناً.

فهل هناك من يحاسب وزيراً أو مديراً عاماً، هما تكنوقراط شكلاً ومحسوب كل منهما على جهة سياسية ضمناً. وتعتبر مرجعياتهما السياسية أن المسً بهما ضرب للطائفة ومس بهيبتها؟

وطالما أن الحديث عن المال، فإن القضاء يلاحق مدير الجمارك بجرم إطلاق سراح من عرف بإسم "أمير الكبتاغون". وهو أمير من أبناء الأسرة المالكة السعودية. أعتقل منذ سنوات بتهمة محاولة تهريب كمية ضخمة من المخدرات. وصدر قرار بإجراء مصالحة معه ليدفع غرامة بقيمة 97 مليار ليرة لينانية. لكن مدير الجمارك أطلقه من دون إستيفاء المبلغ المستحق للدولة. فهل سيتم طي الملف كالعادة ويضيع حق الخزينة العامة بهذا المبلغ الضخم؛ وهي التي تشكو الإفلاس والخواء؟

قصر الحديث أننا لسنا في دولة ولا مؤسسات ولا قانون، بل مزرعة يتسلط عليها الأقوى. فهل يرحم اللبنانيون أنفسهم ويتخلصون من هذا النظام ورموزه الفاسدة المتحكمة بهم؟  


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل