معركة التدقيق المستحيلة ـ عدنان الساحلي

الجمعة 09 نيسان , 2021 01:57 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

يتشاطر أهل النظام الطائفي القائم على المحاصصة والفساد والمحسوبيات والسرقة، موالاة ومعارضة، في ابتداع طرق وأساليب تقطيع الوقت؛ وإلهاء اللبنانيين عن وضع الإصبع على جراح الوطن، في مسرحيات هزلية، تتبدل عناوينها مع تبدل مراحل الأزمات ، لكنها تبكي اللبنانيين المتألمين مما آلت إليه أمورهم الحياتية، بدلاً من أن تضحكهم وتخفف عنهم.
صحيح أن ما يسمى معركة التدقيق الجنائي، التي نشهد فصولها حالياً، هي معركة يجب أن تخاض بكل القوة والعزم اللازمين، لأنها مدخل وشرط لأي إصلاح جدي. وهي وسيلة قد تعيد بعض ما نهبه زعماء الطوائف وأصحاب المصارف والمتعهدون وأرباب الصفقات من أموال اللبنانيين، إلا أن توقيتها وأدواتها لا يبشران بالخير، لأن استخدامها كسلاح في المواجهات السياسية شيء؛ واعتبارها مسألة مبدئية لا تراجع عنها شيء مختلف تماماً. ومحق من يسأل لماذا لم يفتح العهد هذه المعركة في بداية حكمه. ولماذا سكت سنوات ليعود ويستعمل ملفات الفساد كسلاح دفاعي؟
والتدقيق الجنائي في ترجمته الصحيحة هو تدقيق تشريحي (forensic audit). ويبدو أن الإصرار على تسميته بجنائي، يهدف إلى تضليل الناس وإيهامهم بخطورة وأهمية ما يجري. وأنه سيأتي بما لم يأت به الأوائل!
لكن عندما نعرف ما يمكن أن يكشفه هذا التدقيق، ندرك أن المعركة الحالية قد لا يكون حظها أفضل من حظوظ معركة "الإبراء المستحيل"، التي وئدت وماتت بفعل الصفقات والتفاهمات السياسية، التي عقدت بين المدعي والمدعى عليه.
وما يمكن أن يكشفه هذا التدقيق كمثال هو: 
-    موازنة وكلفة دمج المصارف بين أعوام 2000 و2004 وكلفة الهندسة المالية (الدمج حينها ألغي بتدخل من الرئيس إميل لحود).
-    موازنة العلاقات العامة لحاكم مصرف لبنان، خصوصاً رشاوى الإعلام ومحطات التلفزة، لزوم التلميع والتزويق استعداداً للتقدم إلى موقع رئاسة الجمهورية والانتقال من "قصر شارع الحمرا"، حيث مصرف لبنان إلى قصر بعبدا.
-    القروض الهالكة والتي تزيد عن المليار دولار، حسب ما كرر بعض خبراء الاقتصاد. وهي تعني أن المدين عندما يتعثر وكان له من يحميه، يعتبر قرضه هالكاً ويسامح به.
هذه الأمور الخطيرة، يتطلب كشفها رفع السرية المصرفية والتشهير بالمستفيدين من الدمج والهندسات والعلاقات العامة وأصحاب القروض الهالكة. وهؤلاء ينتمون إلى كل الفئات، موالاة ومعارضة، بمن فيهم أنصار العهد وغيرهم.
والفضائح في هذا الصندوق الأسود إذا فتح، ستكون بالدرجة الأولى من نصيب جماعة "تيار المستقبل" (القروض الهالكة). و"القوات" لأن معظم كبار المصرفيين المسيحيين مقربين منها (باسيل وعودة وغيرهم)؛ ومقربين من العهد (سيدروس بنك)؛ ولنجيب ميقاتي (بنك عودة) وغيرهم من النواب والوزراء السابقين والأثرياء، الذين يكشف دفاعهم عن المصارف وعن رياض سلامة موقعهم في هذا الاصطفاف. علماً أن الشيعة هم الطرف الأضعف، بل شبه الغائب عن القطاع المصرفي، بعد إقفال "بنك جمال" بضغط أميركي. فهل يجروء رياض سلامة على فضح هذه الشبكات المالية، أم يكون مصيره كما تنبأ له الوزير السابق مروان شربل، بأنه إذا تكلم إما أن يقتل أو يهرب من البلاد. 
وحسب ما نشره خبراء المال والاقتصاد، فإننا بنظرة سريعة إلى اتهامات "الإبراء المستحيل" للحقبة الحريرية السابقة، نجد أن أبرزها: إنفاق 250 ألف مليار ليرة خلال عقدين من الزمن من دون رقابة، ما فتح المجال للإسراف والتبذير السياسي والمافيوي. إنفاق بلا مستندات. فقدان 451 حوالة و2810 شيكات. موازنات لم تقدم ضمن المهل الدستورية منذ 1993 بعد تصفير الحسابات السابقة لتلك السنة المفصلية. قطع حسابات بين 1993 و2003 أقرت بتحفظ، لعدم البت بصحتها وسلامة التدقيق فيها، أو لوجود ملاحظات لديوان المحاسبة  عليها، علماً بأن موازنات 10 سنوات بين 2001 و2011 لم تقدم إلى الديوان وفقاً للأصول، والقطوعات الحسابية المقدمة بين 2004 و2010 لا ترقى إلى تسميتها كذلك، وفقاً للمعايير المحاسبية السليمة. كما جرى حديث أيضاً عن مبلغ 11 مليار دولار ضائع، مسؤول عنه وزير المالية الأسبق، فؤاد السنيورة الذي ترقى ليصبح رئيساً للحكومة.
كما أشارت الاتهامات العونية إلى ضياع 900 مليون دولار في قطاع الهاتف الخلوي. وتطرقت إلى زيادة الدين العام، الإنفاق العشوائي بسلفات خزينة. وغيرها كثير. فهل سيطال التدقيق التشريحي، أو الجنائي، هذه الاتهامات، إذا ما قيض لسعد الحريري تشكيل حكومة برئاسته؟
والأهم في هذه المعمعة، هل هناك من يجروء على تعميم تجربة التدقيق على الوزارات وصناديق المهجرين والإغاثة ومجلس الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار والهيئات العامة الأخرى. أي التدقيق في حساب خزينة الدولة والحساب 36 لدى مصرف لبنان، لمعرفة كيفية صرف الأموال عموماً. وحسب البعض، فإن هذه الملفات تفتح "أبواب جهنم على لبنان وتشعل حرباً أهلية". وطبعاً عندما نجد أن الرئيس سعد الحريري والرئيس نبيه بري ووليد جنبلاط ومعهم سمير جعجع، في جبهة واحدة، ندرك أن الرئيس عون هو الطرف الأضعف. وبالتالي، فإن ما ستسفر عنه هذه المعركة سيكون "زق حصير" كما يقول اللبنانيون، أي "لا غالب ولا مغلوب" حسب الصيغة اللبنانية، التي تضع مصلحة النظام وبقائه فوق كل مصلحة، حتى لو أهدر ذلك أموال اللبنانيين وأفلس الخزينة وشطب حسابات الهدر والسرقة. خصوصاً أن الطرف الآخر سيفتح للعونيين ملف الكهرباء وهدر 40 مليار دولار في قطاع لم تعالج فيه الانقطاعات يوماً، منذ تسلمه من جبران باسيل والوزراء العونيين اللاحقين.
وبالتالي، فإن ما نشهده هذه الأيام يهدف إلى شد العصب السياسي لهذا الطرف أو ذاك. ففي مقابل الحملات المنسقة مع الخارج ضد عهد الرئيس عون، من قبل أخصامه السياسيين، يتم الرد عليهم بحشرهم بفسادهم، حيث تدينهم أعمالهم وملفاتهم المسجلة بالأرقام لدى جهات الرقابة اللبنانية، الممنوعة من المحاسبة ومن إعلان ما تملكه من فضائح. وقريباً سيقول الفاسدون: كل تدقيق وأنتم بخير.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل