ترسيم مفرّط وإنجاز وهمي ـ عدنان الساحلي

الجمعة 14 تشرين الأول , 2022 11:27 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

سيستمر السجال حول مدى التفريط ودرجاته، الذي ارتكبه الرؤساء الثلاثة ومن دعمهم وأيدهم، في ترسيم الحدود البحرية مع الكيان "الإسرائيلي" الذي يحتل فلسطين. ولن يصل اللبنانيون إلى أجوبة شافية، مثلما لن يحققوا حلمهم بالثراء نتيجة تحول بلدهم إلى بلد نفطي. فمؤيدو الترسيم مقتنعون أنهم حققوا إنجازاً تاريخياً يستحقون الثناء عليه، فيما منتقدوه يفندونه بالأرقام والوثائق وببنود الإتفاقيات الدولية، ليصلوا إلى إتهام الرؤساء الثلاثة بالتفريط المريع بحقوق لبنان؛ وبالتنازل عن حدوده الدولية المعترف بها من الأمم المتحدة. ليصل الأمر إلى إلقول أن ما جرى كان خضوعاً واضحاً للإملاءات الأميركية وقبول مذل بالخطوط الحمر الأميركية و"الإسرائيلية"، مقابل السماح الوهمي للبنان، باستخراج الغاز من حقل وهمي حتى الآن، أطلق عليه العدو "الإسرائيلي" إسم "حقل قانا"، ليذكرنا بمجزرتي قانا الهمجيتين، اللتين إرتكبهما العدو في إعتداءاته على لبنان.

ومما زاد وسيزيد من حدة هذا السجال، أن البعض كان ينتظر من المقاومة أن تقف لوحدها وتضع شروطاً وسقوفاً لما يجري، فتتهم بأنها جرّت لبنان إلى حرب، لو نشب صراع عسكري، من دون أن تستشيرهم أو تأخذ رأي مسؤولي الدولة والحكومة. أو تتهم بانها كانت السبب في فشل هذا التفاهم، لو فشل الترسيم، فيعتبرونها سبباً في الإفقار والتجويع الحاصل. إذاً كانت التهم جاهزة وأبواق الإفتراء مفتوحة، لكن وقوف المقاومة "خلف الدولة"، أسقط من أيدي أخصامها حججهم لإنتقادها، بغض النظر عن قرارها.

لكن ماذا فعلت "الدولة"؟

هل حقاً حصل لبنان على كامل حقوقه كما يقول المسؤولون؛ ولم يفرط هؤلاء بحقوق ظاهرة ومعروفة له؟ وهل يكفي أن يستنكر بعض قادة العدو هذا التفاهم، لأسباب خاصة بهم، حتى يصبح الإتفاق باهراً في أنظارنا؟ وهل يجروء أي مسؤول لبناني على نفي لبنانية صخرة رأس الناقورة، أوالقول أن الخط 29 ليس هو حدود لبنان الدولية؟ أو أنه إستعادهما بموجب هذا الترسيم؟ أو أن الطفافات التابعة للعدو أزيلت وتراجعت إلى حدود فلسطين المحتلة؟

جدير هنا التذكير بأن الحديث عن وجود نفط وغاز في بر وبحر لبنان، يتكرر منذ ستينيات القرن الماضي. وجرت أعمال تنقيب، لكن أيد خفية كانت تتدخل كل مرة وتوقف التنقيب، تحت حجج غير منطقية وغير علمية، فتردم الآبار المحفورة ويحرم لبنان من إستخراج ثروته والإستفادة منها. لكن الذي تغير هذه المرة، أن أوروبا تحتاج إلى غاز بديل عن الغاز الروسي. وأن الأميركي يريد مواصلة الضغط على روسيا. والمقاومة هددت بالتصدي للعدو "الإسرائيلي"، بعد أن بادر إلى الحفر والتنقيب في حقل نفطي، أكد رئيس الوفد اللبناني السابق إلى مفاوضات الترسيم العميد الركن المتقاعد بسام ياسين، الذي قاد خمس جولات من التفاوض في الناقورة،   أن  حقل "كاريش"،هو حق للبنان ،لكن   المفاوض اللبناني تجاهله  وفرط به، بعدم تمسكه بالخط 29، الذي يشكل وفق ياسين الحدود البحرية اللبنانية الجنوبية، لأن إتفاقية الهدنة المعقودة بين لبنان والكيان "الاسرائيلي" سنة 1949، أُقرّت بناءً لقرار من مجلس الأمن سنداً لأحكام المادة 40 من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة. وقد نصّت تلك الإتفاقية، في مادتها الخامسة، بوضوح أن حدود لبنان هي حدوده الدولية، استناداً للإتفاقية الدولية "بوليه- نيوكومب" سنة 1923، بين فرنسا وبريطانيا. علماً أن ترسيم الحدود تمّ في شهر آذار من العام 1949 وأُرسلت إحداثياته الى الأمم المتحدة، فأصبح التعريف الرسمي لهذه الحدود هو الحدود الدولية. وجاء إنضمام لبنان الى إتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تشير الى أنّ الترسيم البحري له مرتكزات قانونية ومعايير تقنية يتوجب إعتمادها، لا سيما لجهة الربط بين الترسيم البحري والبريّ. وهكذا فرّط ترسيم المرتبكين في السلطة بحقوق لبنان، فهم مهووسون بالحصول على المال، لأنهم من دونه ستسقط زعاماتهم وتنهار فيدرالياتهم الطائفية والسياسية والمالية. وهم جائعون إلى المال، بعد أن نهبوا البلد وأفرغوا الخزينة وهربوا ما لم يستهلكوه إلى مصارف الغرب.  
 
وهكذا، بدلا من أن تكون لنا حصة في "كاريش" أعطي العدو حصة في حقل "قانا"، بطريقة ملتوية وخدّاعة، بالقول أنها من أرباح شركة "توتال" وليس من حصة لبنان. وكأن "توتال" جمعية خيرية، أو حلالة مشاكل تدفع من جيبها لتجنب حصول حرب بين لبنان والكيان المحتل.
 
وأياً كانت نتيجة هذا الجدال، فإن التفاهم حصل على موافقة حكومة لبنان وحكومة العدو "الإسرائيلي". لكن الوجه الآخر للمأزق اللبناني، أن تجربة اللبنانيين مع حكامهم بالدرجة الأولى ومع السياسات الأميركية ومطامع العدو "الإسرائيلي"، تجعلهم يتيقنون أن كل ما يقال عن إنجاز هو وهم وتضليل. وأن حلم الثراء الذي راود اللبنانيين هذه الأيام سيبقى حلماً، طالما أن حكامه سيبقون هم انفسهم. فإذا كان تهديد المقاومة أجبر الأميركي و"الإسرائيلي" على إعلان السماح للبنان بالتنقيب، فإن خلاف الحكام اللبنانيين على نسب حصصهم، التي تعودوا الحصول عليها من شركات التنقيب ومن إيرادات الإستخراج، حينما يتم، كفيل بوقف تلك الأعمال وتعطيل عمل الشركات. ألم يحصل ذلك في صراعات المعنيين بالكهرباء واستيراد الفيول وبواخر توليد الطاقة؟ في هذه الحالة لن يكون بامكان المقاومة تهديد "الإسرائيلي" ولا تهديد الشركات. فدويلات المحاصصة القائمة ستعطل تطبيق هذا الإتفاق ما لم تحصل على حصتها منه، قبل التنقيب وخلاله وبعده. أما إذا قررت الشركات المماطلة في أستخراج الغاز اللبناني، لأسباب خاصة تقنية، أو بناء لطلب "إسرائيلي" مبطن منها؛ ونحن نعلم أن علاقات الشركات الكبرى مع العدو أمتن منها مع لبنان، فماذا ستفعل المقاومة في هذه الحالة بعد سحب ذرائع التهديد من يدها؟ وأين كل الكلام عن هيئة إدارة البترول وعن الصندوق السيادي؟ وهل جرت محاسبة فاسد أو سارق من كبار القوم، حتى لا يمد يده إلى أموال الغاز والنفط؟

وبالمقارنة نجد أن لبنان ما يزال في مرحلة الكلام، فيما العدو أنجز الحفريات وبدا الضخ التجريبي وسوف يستخرج ويبيع. ويقال أن حقول النفط المتقاربة غير مفصولة عن بعضها، فهل ستعاون شركات النفط لبنان ليلحق بما أنجزه العدو، أم يبدأ الإستخراج اللبناني للغاز بعد فوات الأوان وإفراغ الحقول من مخزوناتها؟ وهل هناك ثقة بعد رفع الضغط عن "كاريش" أن "الإسرائيلي" سيرضخ لمطالب لبنان؟ ومن يضمن ذلك؟ ولو كان الأميركي حسن النية لما أرسل الضابط "الإسرائيلي" عاموس هوكشتاين ليتوسط باسمه.

الجديد هو ما أعلنه العميد ياسين أمس، بأن ما يقال عن أن لبنان حصل على 100% من حقوقه هو كذبة، فهذا الإتفاق يعطي لبنان 20% ويعطي 80% للعدو من المنطقة المتنازع عليها؛ وفقا للقانون الدولي. وهي المساحة الواقعة بين خط هوف والخط 29 والبالغة 1800 كلم مربعاً. وفي حال الإنصاف يجب أن يحصل لبنان على 80% والعدو على 20% منها، كون الحجج القانونية للخط ٢٩ والموجودة عند المسؤولين اللبنانين كافة، هي أقوى بكثير من حجج خط هوف. ولو حصل لبنان على نصف هذه المساحة بإعطاء نصف تأثير لصخرة الناقورة، لكان حصل على 500 كلم مربعاً إضافية جنوب الخط 23؛ ولكان حقل قانا بكامله تحت السيادة اللبنانية؛ ولكنا نستطيع استخراج النفط والغاز من هذا الحقل، من دون أي شروط "إسرائيلية"، على عكس ما هو حاصل اليوم.

والأمر المهم الآخر، لو تخطينا كل هذه القضايا، من يضمن أن لا يواصل الحاكمون في لبنان نهجهم في الفساد والسرقة وافقار اللبنانيين وهدر أموالهم؟ ومن يضمن أن لا يصبح يصبح لبنان دولة نفطية، فيما شعبه فقير وجائع؟


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل