الفساد في لبنان.. واقعه وجذوره (7) ـ أحمد زين الدين

الخميس 20 تشرين الأول , 2022 08:26 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

الحرب الأهلية تعمم الفوضى الشاملة

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية لم يكن ياسر عرفات يريد الانخراط فيها أو توسيعها لأنه كان يريد لبنان قاعدة سياسية وإعلامية وعسكرية، تمنحه أوراقاً قوية عندما يحين موعد تسوية القضية الفلسطينية، ولم يكن يرغب ألبتة في إشعال لبنان، لأن من شأن ذلك أن يخسّره كثيراً من رصيده وأوراقه. ولم يكن يرغب قط في أن تتطوّر الحرب الأهلية، وهي  في بداياتها، إلى حريق شامل. ولذلك حين وصلت أول شحنة سلاح إلى زعيم الحركة الوطنية اللبنانية، كمال جنبلاط، من ليبيا احتجزها، وراح تحت إلحاح جنبلاط واحتجاجه يسلّمه السلاح دفعة وراء دفعة، والهدف كان السيطرة بقدر الإمكان على تطوّرات الميدان. وعندما صدرت الوثيقة الدستورية في 14/2/1976 رفضها كمال جنبلاط لأنها أدنى بكثير من طموحاته السياسية، وأدنى من تطلعات اليسار اللبناني.

أما ياسر عرفات فتردّد في الموافقة عليها، لا لأنه معنيٌّ بأنها جيدة أم غير جيدة، بل لأنه كان يريد معرفة حصّة السوريين فيها؛ فهو يخشى سيطرة سورية على قراره. وفي جميع الأحوال، لم يكن مطلوباً منه الموافقة عليها، لأنها وثيقة خاصة باللبنانيين وبمستقبل النظام السياسي اللبناني، بل كان المطلوب منه عدم معارضتها واعتراضها. والمشهور أن كمال جنبلاط كان يتطلّع إلى كسر المعادلة اللبنانية التي صيغت في سنة 1943، وإلى إعادة بناء لبنان على أُسس جديدة، تأخذ في الحسبان مطالب جنبلاط السياسية والاجتماعية، وكذلك مطالب اليسار والقوى التقدّمية اللبنانية، أما عرفات فكان يريد الاستفادة من وجوده في لبنان المفعم بالتناقضات المتعدّدة من غير أن تنفجر تلك التناقضات في وجهه. وكان يتطلع، بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وبعد خطبته في الأمم المتحدة في 1974، إلى أن يحجز لنفسه مقعداً في المؤتمر الدولي للسلام الذي كان الحديث عنه آنذاك لا يتوقف. ولهذا راح يتقرّب من الأميركيين بأي وسيلة، وجعل علي حسن سلامة (أبو حسن) قناته السرّية إلى الأميركيين، بيد أن كمال جنبلاط كان في موقع مختلف؛ كان يريد تحقيق انتصار يتيح له تغيير المعادلة السياسية اللبنانية الراسخة. وفي أي حال، لم يكن عرفات مقتنعاً بمشروع جنبلاط هذا، وتغيير نسب القوى في لبنان. ولكن، هيهات لعرفات أن يتمكّن من تجنّب الحرب؛ فهنري كيسنجر كان يفكر بطريقة مخالفة، وهو الذي شجّع اليمين اللبناني على تفجير الحرب، ودعَمَها بوسائطه المعروفة: السلاح والسياسة والاستخبارات.

انعطفت الأمور السياسية في لبنان إلى وجهة جديدة، بعد الهزائم المتكرّرة التي لحقت باليمين اللبناني، ابتداء من منطقتي الفنادق والأسواق التجارية في بيروت حتى أعالي المتن، نزولاً نحو بسكنتا وبكفيا في قلب جبل لبنان، وباتت القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية على وشك إسقاط البلدتين، وفي 18/3/1976، أبلغ الرئيس السوري، حافظ الأسد، السفير الأميركي ريتشارد ميرفي أن الرئيس سليمان فرنجية طلب منه رسميًا إدخال القوات السورية إلى لبنان لوقف الحرب، ولوقف تقدّم القوات المشتركة في عمق جبل لبنان. وخشي الأسد من العلاقات المتنامية التي نسجها الموساد مع المليشيات اليمينية، ومن احتمال التدخل العسكري الإسرائيلي المباشر، وهو احتمال جدّي جداً في ضوء التهديدات الاسرائيلية التي كان الأميركيون ينقلونها إلى سورية. وفي اجتماعٍ عُقد في البيت الأبيض في 24/3/1976، حضره الرئيس جيرالد فورد وهنري كيسنجر ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد أبلغ مستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت الرئيس فورد تقدير موقف يقول إن منظمة التحرير الفلسطينية وحلفاءها سينتصرون في لبنان. وإن الولايات المتحدة يجب أن تقبل التدخل العسكري السوري الذي سيضع حداً لمثل هذا الاحتمال. وهنا بالتحديد توصل كيسنجر إلى الاقتناع بجدوى التدخل السوري. ولم تكن الموافقة الأميركية عليه نهائية، بل استمرّت الولايات المتحدة في تسليح المليشيات اليمينية من خلال إسرائيل. وكانت سياسة تسليح هذه الميليشيات تهدف إلى استنزاف أطراف القتال في لبنان، وإغراق سورية في الوحول اللبنانية. وتحت الضغط الأميركي، وما دامت الغاية وضع حد للتمدّد اليساري اللبناني وتعاظم قوة منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وكذلك إغراق سورية في المشكلات اللبنانية، قبلت إسرائيل الدخول العسكري السوري، شرط أن يبقى الجيش السوري شمال نهر الليطاني، بل عند حدود مدينة صيدا. ومعروف أن الجيش السوري وصل، في اندفاعته الأولى إلى مدينة النبطية، لكنه انسحب منها بناء على الشروط الإسرائيلية والتهديدات المكشوفة، وأبقى سرّاً وحدات من سلاح الاستطلاع في مواقع عسكرية فلسطينية، ومنها قلعة الشقيف.

إسرائيل تدخل علناً على خط الحرب الأهلية وعدوان في السفارة في باريس في أيلول 1975


مع توسع الحرب الأهلية، بدأ الفساد يعم البلد أفقياً وعمودياً، ففي الجانب الانعزالي، عادت الصلة مع العدو الإسرائيلي التي كانت قد بدأت منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي إلى أوجها، ففي أيلول 1975، كما يقول الآن مينارغ في كتابه عن "حرب لبنان": أنه "إثر هجوم على قريتين في الجليل، كريات شمونة ومعالوت، نفذه فدائي فلسطيني، توجه جورج عدوان، زعيم مجموعة التنظيم إلى سفارة إسرائيل في باريس، الكائنة في شارع رابليه، وطلب بعد التعريف عن نفسه، مقابلة "شخص مسؤول" فوجد نفسه بحضور دافيد كمحي الذي عرّف عن نفسه كأحد أفراد البعثة". قال له جورج عدوان على الفور:
"نقاتل العدو نفسه: الفلسطينيين. زودونا ببعض الأسلحة!".

بعيد أيام معدودة، توجه دافيد كمحي والمقدم بنيامين بن أليعازر إلى لبنان في مهمة غرضها الاتصال بالتنظيمات المسيحية، وصل كلاهما بالزي المدني مسلحين بمسدس من طراز سميث أندويسن، على متن زورق "دبور" إسرائيلي، رسا ليلاً في عرض البحر قبالة ساحل جونيه، كان بن أليعازر معروفاً أكثر بلقبه العقيد فؤاد، ويقود الوحدة 300، المؤلفة من "الأقليات المتحدرة من البلاد المحيطة"، والتابعة لجهاز الاستخبارات العسكرية. قابلهما داني شمعون وبشير الجميل على قارب "كريس – كرافت" وقاداهما إلى ميناء الكسليك السياحي، قرب جونيه، وقد التقيا، أثناء الساعات الإثنتي عشر لإقامتهما في لبنان، بيار الجميل ونجليه أمين وبشير، حاول بشير احتكار النقاشات في ما يتعلق بالحالة العسكرية ميدانياً، فألحّ دافيد كمحي عندئذٍ، مبتسماً لكنما مازحاً: "أتمنى لو أن شقيقك أمين يتكلم أيضاً" تجهم وجه اللبناني الشاب وفهم رجل الموساد أن طلبه لم يرق لمحاوره إطلاقاً. فقد رأى الإسرائيليان أنه من الأهمية بمكان أن يجريا النقاش مع جميع القادة المسيحيين أياً كانوا. وللهدف نفسه، التقيا كميل شمعون ونجله داني، وعادا إلى إسرائيل تعتريهما مشاعر ملتبسة. بدا لهما بشير (الذي أصيب بدوار البحر أثناء ذهابه لملاقاتهما في عرض البحر) صبيانياً. أما أمين فقد بدا لهم شخصية لا حماسة وغير جدير بالثقة، ولكن "في هذا البلد حيث كلمة سياسة مرادفة لفساد، ولنظام إقطاعي بال، كان بشير مع ذلك بسيطاً ومباشراً وصادقاً"، هذا ما كتبه دافيد كمحي، فكانت زيارته الأولى هذه إلى لبنان نقطة الانطلاق للدعم الثابت لليمين بصورة عامة ولبشير بشكل خاص، طيلة عشر سنوات تقريباً.

وهكذا تطورت العلاقات الكتائبية والقواتية واليمين الانعزالي بشكل عام وصولاً إلى الاجتياح عام 1982، والتي ترافقت مع فرض ضرائب وخوات ورسوم مرور على المعابر بين خطوط التماس، لم تكن عائداتها بالطبع تعود إلى خزينة الدولة بل قوى الحرب والمليشيات.

قوى أمر واقع وفوضى وقلق وصراع أزمة

أما في الجهة المقابلة، فكان للفساد أشكاله المتعددة، فالأحزاب اليسارية وخصوصاً العقائدية فيها، كان المنتسبون إليها يدفعون اشتراكات شهرية لقاء عضويتهم، لكن الحرب أدخلت منافسين جدداً.

إذ أخذت الفصائل الفلسطينية تنافس الأحزاب اللبنانية باستمالة المواطنين اللبنانيين إلى صفوفها، من خلال دفع رواتب شهرية مجزية، بينما كان الحزب العقائدي في لبنان يكون ماليته ومصاريفه من اشتراكات أعضائه التي لا تقل عن خمس ليرات للعضو، فبات من يلتحق بفصيل فلسطيني يتقاضى راتباً يتجاوز الـ300 ليرة.

أبو عمار يخلق 30 تنظيماً ناصرياً في بيروت وحدها

إلى ذلك، فقد أخذت تفرخ أحزاب ومجموعات في مختلف المناطق، ووصل الأمر برئيس منظمة التحرير الفلسطينية لأن يفرخ 30 تنظيماً ناصرياً في بيروت وحدها.

الانتهازيون والوصوليون يغزون الأحزاب العقائدية

وهكذا عمت الفوضى ونشأ زعماء أحياء وزواريب وقبضايات خوات وهلم جرا. أخذت تثير الفوضى والقلق، في وقت عربش على جسد الأحزاب اليسارية والعقائدية، مجموعات من الانتهازيين المميزين "بتمسيح الجوخ"، وبدأ تفريغ الأحزاب من كوادرها الشابة والواعية والمثقفة والنشيطة لمصلحة الانتهازيين والوصوليين.

وهذا ما لنا عودة إليه في الحلقة المقبلة.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل