الزلزال .. وتغييرات في أولويات الشعوب على مستوى العالم ــ أمين أبوراشد

الأربعاء 22 شباط , 2023 08:46 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

ربما من باب مراعاة مشاعر المنكوبين بالزلزال والهزات اللاحقة التي توالت وتتوالى، التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بعيداً عن احتفاليات وسائل الإعلام في صالة مطار أنقرة، وأبدى الوزير الأميركي استعداد بلاده لمضاعفة المساعدات الأميركية لتركيا بعد وقوع الكارثة.

زيارة الوزير الأميركي جاءت استكمالاً لمباحثات أجراها مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو الذي زار واشنطن الشهر الماضي، بشأن طلب شراء طائرات 16 F، ورفض الكونغرس إبرام هذه الصفقة، على خلفية احتفاظ تركيا بعلاقات جيدة مع روسيا من جهة، و إصرار أميركا على دخول السويد وفنلندا إلى حلف الناتو من جهة أخرى ، لاستكمال الحزام الأمني حول أوروبا، ومُعارضة تركيا انضمامهما لأنهما تأويان عناصر من حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره إرهابياً.

كل ما تقدَّم، كان يعتبره الشعب التركي مسألة سياسية طبيعية في العلاقات الدولية، لكن أن تكون هناك إطلالة إعلامية لوزيريّ الخارجية، يتحدثان خلالها وفي هذه الظروف عن صفقة الطائرات وانضمام السويد وفنلندا إلى حلف الناتو، في وقتٍ ملايين الأتراك يعيشون بين المخيمات والعراء وفوقهم ركام وتحتهم هزات ارتدادية تتوالى بالآلاف، فهذا ما لم يجده المراقبون مقبولاً في أداء السلطات التركية، خصوصاً أنها لم تكن على قدر المسؤولية في الاستجابة لنكبة مناطق تشكل 10% من مساحة البلاد.

المشكلة الأخطر من حدوث الزلزال والهزات الأرضية اللاحقة، أن الشعب التركي يعيش ذعراً غير طبيعي، على أرضٍ باطنها فوالق بركانية، وسطحها يحمل سدوداً مائية ضخمة أحدث فيها الزلزال تصدعات قد تؤدي الى انهيار بعضها، مع ما قد تسببه سيولها من مخاطر على المدن والقرى في تركيا ومنها إلى سوريا والعراق، وأحزاب المعارضة التي كانت على المستوى السياسي تعتبر أردوغان في الماضي القريب ديكتاتوراً ولديه نزعة سلطانية، أشهرت بوجهه بعد الزلزال كل أسلحة الهجوم السياسية، خصوصاً، أن الانتخابات الرئاسية كان مقرراً لها أن تُجرى في شهر أيار المقبل، ومسألة حصولها أو تأجيلها ما زالت غير واضحة.

ويأخذ معارضو أردوغان عليه دائماً، أحلامه السلطانية التي لا تراعي واقع الداخل الشعبي، وأن عينه على الخارج، ويحشر أنف تركيا في ما ليس للشعب التركي مصلحة فيه، بدءاً من سوريا، مروراً بمصر وليبيا ودول الخليج، ووصولاً الى المشاكل التي تسبب بها لتركيا مع أوروبا، لجهة استيراد وتصدير الإرهاب عدةً وعتاداً وعديداً، وتحميل الاقتصاد التركي والأمن القومي والاجتماعي أعباء مغامراته، وتبعات ذلك على الليرة التركية. وجعلت المعارضة التركية من مدينة إرزين في ولاية اسكندرون ( هاتاي) مادة هجومية على أردوغان، و اسكندرون (هاتاي) هي إحدى الولايات العشر التي تعرضت للدمار الهائل في الجنوب التركي، وإرزين دون سواها من المدن والقرى في الولايات المنكوبة لم تتأثر أبنيتها السكنية ولا بُناها التحتية ولا سكانها بالزلزال، ليتبين أنها تعتمد معايير البناء التي تضمن مقاومة الزلازل، وأن كل من تعاقبوا على إدارة بلديتها مدى العقود الماضية كانوا يتشددون في الرقابة على إنشاءات الأبنية ويهدمون أي بناء مخالف، وأصبحت إرزين بعد الزلزال حديث العامة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وبات رئيس بلديتها اوككيش ألماس أوغلو كأنه بطل كشفت عنه الكارثة، بفضل الإجراءات الصارمة التي أعلن أنه طبَّقها في البلدة، عبر فرضه الالتزام بقواعد البناء بلا أي استثناءات، وبفضل ذلك لم تحدث حالة وفاة أو إصابة واحدة نتيجة الزلزال في البلدة.

وتسابقت وسائل الإعلام للوصول إلى رئيس البلدية إلماس أوغلو، في محاولة لمعرفة أسباب الصمود، وفي مداخلة مع قناة "فوكس" قال: أنه لم يسمح بأي بناء غير قانوني في المدينة، وأن أسلافه أيضاً كانوا حريصين مثله على تطبيق القوانين التي تراعي "كود الزلازل" في الأبنية السكنية والمنشآت الأخرى. إرزين، التي استقبلت 20 ألف نازح من الزلزال، أي ما يوازي نصف عدد سكانها المقيمين، باتت بنظر الأتراك النموذج المثالي الذي أحدث ما يشبه الثورة الشعبية على تجار المقاولات، الذين اعتقلت السلطات التركية نحو 200 منهم بتهمة الإهمال في مراعاة شروط البناء المقاوم للزلازل المنصوص عنها في قانون صدر في العام 1940، لكن غياب الرقابة ودفع الرشاوى والفساد القائم، جعل أعمال المقاولات مشبوهة، مما دفع بالدولة عام 2018 الى تغريم أصحاب الأبنية المخالفة وإعفائهم من الهدم، وهذا الإجراء شجع على مزيد من الارتكابات في مجال البناء.

هنا برزت مشكلة اسطنبول، التي كان الخبراء يتوقعون حصول الزلزال فيها وليس في الجنوب، وأن احتمال حدوثه مستقبلاً واردٌ جداً، وزحف الآلاف من سكانها مفزوعين إلى الدوائر البلدية والحكومية والشركات الهندسية، يطالبون الكشف على أبنيتهم لتبيان وجود خمادات مقاومة للزلازل من عدمه في أساساتها، مما أحدث إرباكاً وفوضى بين السكان البالغ عددهم 16 مليون نسمة، يفوق إرباك الملايين المنكوبين في الولايات الجنوبية. لقد بات هاجس كل مواطن تركي أن يأمن للسقف الذي يأويه، وإلى الأساسات الراقدة فوق باطن الأرض التي تهتزّ، وهذا الهاجس انتقل الى دول الجوار وسوف ينتقل إلى الكثير من دول العالم، وباتت صناعة الخمادات التي تضمن مرونة أساسات كل بناء هي الرائجة حالياً في تركيا وسواها، وفي الكثير من بلدان العالم، سواء المتقدمة منها أو النامية الفقيرة، ولم تعُد مشكلة الغذاء وسط الأزمة الاقتصادية العالمية هاجس الناس، بقدر ما باتت تحلم بسقفٍ لا يهوي على رؤوسها، ومسك الختام ما تردد في الشارع التركي مساء الإثنين فور وقوع زلزال جديد بقوة 6.5 على مقياس ريختر، عن الحاجة الى تزويد كل مواطن في المناطق التي تتعرض للزلازل والهزات بجهاز GPS لتسهيل تحديد مكان وجوده في حال انهيار أبنية جديدة والعدد المطلوب هو عشرة ملايين جهاز على الأقل، وهذا أنفع وأجدى للناس من إهدار المال العام لشراء طائرات F 16 من أميركا...


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل