"الجيش الصهيوني" من "الدفاع" إلى "الهجوم": حين تدق الغوريلا على صدرها

الخميس 19 تشرين الأول , 2023 01:52 توقيت بيروت فـلـســطين

الثبات ـ فلسطين

ينزع الخطاب الاستعماري الصهيوني، وتوأمه الخطاب "الحضاري" الأوروبي الأبيض، عن الغزيين الحق في الدفاع عن أنفسهم، ورغبتهم في الحياة، بينما يتم التركيز على وصف الجيش الصهيوني بأنه "جيش الدفاع" بما يحيل في الأساس إلى مهمته الاستعمارية المتخيلة التي يحاول ترسيخها في خطاباته عن صورته، اليوم وغداً وأمس، في كونه جيشاً يدافع عن نفسه، والأسطورة التي تجاوزت الواقع.

ولدى الجيش الصهيوني العديد من الوزراء والممثلين، إلى حد تشكيل حكومة طوارئ خاصة بالحرب، "حكومة حرب"، في محاولة لمداراة الفضيحة المدوية التي ألمّت به. ومن هذه الجوقة يخرج وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت، مؤكداً، بكثير من التوتر والاضطراب، قدرة الجيش على حماية نفسه، وأن جيشه قد انتقل للتو من الدفاع إلى الهجوم، مستعرضاً بطولات جنرالاته الذين هرعوا إلى غلاف غزة لاحتواء الهزيمة، ومفاخراً بأن أحدهم قتل وحده 14 فلسطينياً، ومهدداً بمحو حركة "حماس"، وجازماً في آخر خطابه بحسم الانتصار.[1]  يمكن قراءة تأكيد غالانت، وإصراره على استدعاء سيرة الجنرالات في خطابه، على أنه يداري حقيقة اقتياد المقاومة لمجموعة من الجنرالات الصهيونيين أسرى إلى داخل قطاع غزة، ولا يذكرني ذلك إلاّ بـ"واقعة" جنرالات أُخرى سجلها تاريخ المقاومة الفلسطينية في قلعة الشقيف في الجنوب اللبناني عام 1982.

وقد ترافق هذا، بعد محاولة الجيش استيعاب صدمة الحدث، مع تحشيد عسكري هائل يمكن وصفه بـ "جنون جماعي"[2] عسكري، أكان ذلك من جانب الجيش الصهيوني في هجومه الوحشي على غزة، أم من جانب عصابات مستوطنيه في الضفة الغربية والقدس. فمنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، يخوض العدو الصهيوني حرباً جوية متوحشة على غزة، من خلال قصف الأباتشي وآلاف القنابل التي ألقيت على السكان وعشرات الهجمات الصاروخية الموجهة والعشوائية، بالإضافة إلى استخدام الفوسفور الأبيض المحرم دولياً، وغيرها. وتُشنّ هذه الحرب الجوية بدعم أميركي مكثف للقوات الجوية الصهيونية تمثل في سرب المقاتلات الأميركية warthog A-10 المعدة "لخرق تحصينات تحت الأرض"، تبعاً للباحث خالد عودة الله، وحاملات الطائرات الأميركية جيرالد فورد، وطائراتF-15E .[3]  ويترافق هذا كله مع حرب نفسية شديدة تتمثل في التلويح المستمر بحتمية الدخول البري إلى القطاع، على الرغم من التحذيرات الكثيرة من هذا الأمر في أروقة المؤسسة العسكرية الصهيونية، والاستدعاءات الكبيرة القصوى لجنود الاحتياط للمشاركة في الحرب. يضاف إلى ذلك الآلاف من الأسلحة التي قدمها إيتمار بن غفير لتسليح المستوطنين وإطلاق يدهم أكثر في الضفة الغربية، والنداءات التي تتعالى اليوم في الأروقة العسكرية الصهيونية بشأن تركيز دعم "فرق الإنذار"[4] وتعزيزها في المستوطنات التي تقع على التخوم، وفي المدن العربية والمختلطة في الداخل المحتل.

يترافق هذا مع إشهار مشاركة أميركا في هذا الهجوم على غزة للتأكد من كون اسرائيل تمتلك ما تحتاج إليه لتبقي نفسها آمنة،[5] ويتزامن مع خطاب "ردع" أميركي استعلائي وتحذيري لأي جهات أُخرى، ولا سيما إيران وحزب الله، قد تقف في وجه الغوريلا الصهيونية لصد الهجوم عن غزة أو المشاركة معها؛ فقد هدد الرئيس الأميركي أي جهات أُخرى تنوي التدخل في الحرب على غزة بالقول مستخدماً صيغة الأمر: "إياك أن تفعل ذلك!" DON'T) (.[6]

لا يحتاج موضوع الدعم الأميركي لإسرائيل إلى نقاش الآن، كما أنه ليس هناك حاجة إلى إثبات مدى هشاشة مفاهيم "الحضارة" "والإنسانية" على المقاس الأوروبي وعنصريتها وانحيازها، على الرغم مما شهده التاريخ الحديث من فشل هذه الأنسنة. لكن يمكن الإشارة إلى ثلاث نقاط في الخطابات الأميركية-الإسرائيلية على النحو التالي:

أولاً، خطاب سيادي آمر وحاسم، بكل ما تحمله صورة أميركا من عنف استعماري وتاريخ تفاخر به في حروبها ضد الآخرين، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، كالحرب على أفغانستان، وعلى العراق. وفيه تحديد سلطوي فج لمن يمكن له أن "يفعل" أو "لا يفعل"، بأمر من أميركا.

ثانياً: خطاب يبرئ المستعمِر، ويبيض صفحة أعماله، ويشرعن كل طرق مواجهته لغزة مع تأكيد "جبرية" و"ضرورة" استخدامه القوة لأن على إسرائيل أن تدافع عن نفسها؛ فوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن استخدم جملة أن اسرائيل "مضطرة للدفاع عن نفسها"، بكل ما يحيله هذا إلى إقرار بشراسة الأساليب التي قد يستخدمها المهدَّد لحماية نفسه، وإلباسها لباس "المشروعية". وكذلك هذا ما يُقرأ على ألسنة ممثلي الترسانة العسكرية الصهيونية، من وزراء حرب ومتحدثين عسكريين، بأن الجيش الصهيوني انتقل من "الدفاع" إلى "الهجوم"، يقابل هذا كله خطاب ضمني بأن غزة تستحق ما يجري لها لأنها أخرجت الوحش الصهيوني من وكره.

ثالثاً: خطابات أميركا ومشاركتها في الحرب الصهيونية علناً على غزة إنما هي نتاج قرار استراتيجي براغماتي لحماية مصالحها ومشروعها الإمبريالي وقواعدها العسكرية الكبرى في المنطقة العربية، الأمر الذي يفرض عليها حماية شركائها عبر إغراقهم بأحدث أنواع الترسانات العسكرية للحرب الجوية والبرية والبحرية، وعبر تحنيط قيم "الحرية" و"حقوق الإنسان" و"الإنسانية" "وحقوق الأطفال" التي تتشدق بها.

يبدو الجيش الصهيوني والحال هذه، كما الغوريلا الضخمة التي كلما تضخمت بنيتها الجسدية وازداد هيكلها متانة، أخذت بالتطبيل على صدرها لاستعراض قوتها، ولفت الأنظار إلى هيبتها، لكن، في المقابل، صارت سرعتها بطيئة، وأداؤها منخفضاً، وباتت ضخامة جسمها تقلل من فاعلية قدرتها على الحركة بذكاء من دون إحداث جلبة أو تحطيم كل ما حولها. يحاول الجيش الصهيوني اليوم تحطيم كل ما حوله؛ كل ما له علاقة بالحياة في غزة وخارجها انتصاراً لما عرّته المقاومة فيه.

يقول محمود درويش في مقالته "تحرير الجنوب" إن إسرائيل "صار دماغها العسكري أكبر من جسدها، فأصبحت أسيرة لفائض قوة جشعة، دون أن تحسب أي حساب لقدرة المقاومة الشعبية على تحييد هذه القوة."[7]  واليوم بعد أن فجرت المقاومة الفلسطينية، فجر السابع من تشرين الأول/أكتوبر، هذا الدماغ العسكري، وعرّت البزة العسكرية الصهيونية من نياشينها أمام العالم أجمع، مبينة الفرق الحاد بين الصورة والواقع، كشفت الدولة المتوحشة عن أنيابها، بعد أن أخفتها مطولاً وراء عبارات "تنقية الذات" وخطابات الدفاع عن النفس، وقامت بالإشهار عن صورتها الحقيقية التي لا يعبر عنها إلاّ ما نشاهده من دمار في غزة اليوم بالصوت والصورة والرائحة، و"ينسى الفلسطيني، أن يموت".


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل