دم الشعب الفلسطيني في رقبة إدارة بايدن

الخميس 14 كانون الأول , 2023 10:12 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

لم تتردد إدارة بايدن في استخدام حق "الفيتو" الممنوح لبلادها بحكم عضويتها الدائمة في مجلس الأمن؛ لإجهاض مشروع قرار يطالب بوقف إطلاق النار، وبدء هدنة إنسانية تسمح بتقديم المساعدات اللازمة لإغاثة الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة منذ سبعة عشر عاماً، ويتعرض حالياً لعملية تجويع وإبادة جماعية. 

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق "الفيتو" لحماية "إسرائيل"، وتمكينها من الإمعان في انتهاك ميثاق الأمم المتحدة، والإفلات من العقاب في الوقت نفسه، بيد أن جلسة مجلس الأمن الأخيرة كان لها مذاق خاص لسببين: الأول، أنها عقدت بناء على طلب أنطونيو غوتيرش، الأمين العام للأمم المتحدة، وبعد قيامه بإرسال خطاب إلى رئيس المجلس استناداً إلى الصلاحيات المنوطة به بموجب المادة 99 من الميثاق، وهو أمر نادر الحدوث. وثانياً، لأن انعقادها كان لأغراض ودوافع إنسانية بحتة تستدعي تسامي الجميع فوق الخلافات والمصالح السياسية الضيقة. 

ولأن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي استخدمت حق "الفيتو"؛ لإجهاض مشروع القرار المقدّم في هذه الجلسة، فقد انطوى سلوكها هذا على إهانة للأمين العام للأمم المتحدة، وعلى تحد لإرادة المجتمع الدولي ككل، ومنح "إسرائيل" ضوءاً أخضر يتيح لها مواصلة سياستها الرامية إلى إبادة الشعب الفلسطيني في غزة، كما سنفصّل لاحقاً.

 تجدر الإشارة هنا إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة ليس مجرد موظف دولي تقتصر مهماته على تشغيل الجهاز الإداري للمنظمة الدولية وإدارته، بل هو مسؤول سياسي في الوقت نفسه، ويستمد صلاحياته السياسية من مصدرين رئيسيين: الأول، طريقة تعيينه، والثاني نص المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة. فهو، من ناحية، شخصية منتخبة من جانب أهم جهازين في الأمم المتحدة، هما مجلس الأمن والجمعية العامة، ومن ناحية أخرى، هو مخول أداء وظائف ومهمات سياسية تتعلق بحفظ السلم والأمن الدوليين وصيانتهما.

يستمد بعضها من ميثاق الأمم المتحدة نفسه، ويستمد بعضها الآخر من خلال تطور الممارسة والنشاط الميداني للمنظمة العالمية. فتعيين الأمين العام يتطلب صدور توصية من مجلس الأمن بأغلبية لا تقل عن تسعة أعضاء، يتعين أن تكون من بينها أصوات الدول الخمس دائمة العضوية مجتمعة، كما يتطلب في الوقت نفسه صدور قرار من الجمعية العامة بأغلبية ثلثي الدول الأعضاء، ما يعني أن الأمين العام للأمم المتحدة شخصية منتخبة من ممثلي دول العالم كافة، وبالتالي يفترض أنها تحظى بثقة المجتمع الدولي كله.

 فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة تتيح للأمين العام حق "تنبيه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين"، وأن الممارسة الميدانية جعلت من الأمين العام بحكم منصبه، وفي ظل تجميد لجنة أركان الحرب المنصوص عليها في المادة 47 من الميثاق، هو المسؤول الفعلي عن إدارة قوات حفظ السلام الدولية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، لتبيّن لنا بوضوح تام أن الدور السياسي للأمين العام يطغى على وظيفته الإدارية التي غالباً ما يضطلع بها مساعدوه.

 لم يعرف عن أنطونيو غوتيرش أنه شخصية صدامية، أو أنه يتبنى مواقف وأفكاراً معادية للولايات المتحدة و"إسرائيل"، بل على العكس. ومع ذلك، فقد كان من الصعب عليه أن يلتزم الصمت إزاء عملية إبادة جماعية تجري أمام عينيه على مدى شهرين متواصلين، وهو ما يفسر اضطراره إلى تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة.

ففي الخطاب الذي وجّهه إلى رئيس مجلس الأمن، لم يفعل غوتيرش أكثر من سرد بعض الحقائق التي تضمنتها التقارير التي تلقاها من الموظفين الأمميين في الميدان. يقول غوتيرش في خطابه: "منذ بداية العملية العسكرية الإسرائيلية، أفادت التقارير بمقتل ما يزيد على 15,000 شخص، أكثر من 40% منهم من الأطفال.

وأُصيب آلاف آخرون بجروح. ودُمر ما يربو على نصف المنازل إجمالًا. وهُجِّر نحو 80 في المائة من السكان البالغ تعدادهم 2.2 مليون نسمة قسراً إلى مناطق باتت تتضاءل على نحو متزايد.

ويلتمس أكثر من 1.1 مليون شخص اللجوء في منشآت وكالة الأونروا في شتّى أرجاء غزة، ما ينشأ عنه ظروف تشهد الاكتظاظ وتحطّ من كرامة الإنسان وتفتقر إلى النظافة الصحية.

ولا يجد الآخرون مكاناً يأوون إليه، ويجدون أنفسهم مضطرين للمكوث في الشوارع. وتحيل المتفجرات من مخلفات الحرب المناطق إلى أمكنة غير صالحة للسكن. وما من حماية فعّالة للمدنيين".

ويضيف: "إننا ببساطة عاجزون عن الوصول إلى المحتاجين في غزة. فقد تقوّضت قدرة وكالات الأمم المتحدة وشركائها في مجال العمل الإنساني بفعل نقص الإمدادات ونفاد الوقود وانقطاع الاتصالات وتنامي انعدام الأمن.

وانضم العاملون في المجال الإنساني إلى الغالبية الساحقة من المدنيين الغزيين الذين أُجْلُوا إلى جنوب غزة قبل انطلاق العمليات البرية. وقُتل ما لا يقل عن 130 من زملائنا في وكالة الأونروا، وكثيرون منهم قُتلوا مع أُسرهم. إننا نواجه خطراً جسيماً يتمثل في انهيار المنظومة الإنسانية. فالحالة تشهد تدهوراً سريعاً إلى كارثة بما تنطوي عليه من تداعيات، ربما لا يكون ثمة سبيل إلى إزالتها وعكس مسارها، على الفلسطينيين عن بكرة أبيهم وعلى السلام والأمن في المنطقة.

ويجب تفادي هذه النتيجة بأي ثمن". وينهي غوتيرش خطابه قائلاً: "تقع على عاتق المجتمع الدولي مسؤولية استخدام كل ما في جعبته من نفوذ لمنع المزيد من التصعيد، ولوضع حد لهذه الأزمة. إنني أحثّ أعضاء مجلس الأمن على ممارسة الضغط لدرء حدوث كارثة إنسانية. وأؤكد مجدداً مناشدتي للإعلان عن وقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية. فهذا أمر مُلحّ. ينبغي تجنيب السكان المدنيين المزيد من الأذى. فمع وقف إطلاق النار، يمكن استعادة وسائل البقاء ويمكن إيصال المساعدات الإنسانية على نحو آمن وفي الوقت المطلوب في جميع أنحاء غزة". 

في الجلسة التي عقدها مجلس الأمن لمناقشة "تنبيه" الأمين العام للأمم المتحدة، وتجاوباً مع ما جاء في خطابه، تقدمت دولة الإمارات العربية، العضو غير الدائم في مجلس الأمن، بمشروع قرار مدعوم من 96 دولة عضواً في الأمم المتحدة، يطالب بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وبامتثال جميع الأطراف لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وبالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن، وبضمان وصول المساعدات الإنسانية.

وقد تجاوب جميع أعضاء مجلس الأمن مع هذه الدعوة الإنسانية النبيلة، ما عدا الولايات المتحدة التي صّوتت ضدها، بينما امتنعت بريطانيا عن التصويت، ما يعني أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي قررت، وعلى عكس جميع الدول الأخرى، استخدام "الفيتو" للحيلولة دون تمكين مجلس الأمن من إصدار قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى شعب محاصر ومهدد بالإبادة الجماعية أو بالتهجير القسري. فكيف يمكن فهم دلالات هذا السلوك الشاذ، وما هي الأهداف الحقيقية التي سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقها من وراء استخدام "الفيتو" في جلسة مخصصة لحماية النظام الإنساني وإنقاذه.

في تقديري أن هذا السلوك يهدف إلى تحقيق الآتي:

أولاً: منح "إسرائيل" ما تحتاجه من وقت لتحقيق جميع أهدافها العسكرية والسياسية، سواء ما يتعلق منها بالأهداف المعلنة، المتمثلة في تحطيم القوة العسكرية لحركة حماس وإنهاء حكمها لقطاع غزة، أو الأهداف الحقيقية المتمثلة في إعادة احتلال قطاع غزة بعد إخلائه من جميع سكانه المدنيين، سواء بقتل أكبر عدد ممكن منهم عبر الغارات الجوية والبحرية والبرية التي يشنها "الجيش" الإسرائيلي عليهم ليل نهار، أو بتجويعهم وقطع كل مصادر الحياة عنهم بهدف إجبارهم على الرحيل وتهجيرهم قسراً إلى مصر.

وليس لهذا السلوك سوى معنى واحد وهو منح إسرائيل ضوءاً أخضر للاستمرار في ارتكاب مختلف أنواع الجرائم التي تشكل انتهاكات صارخة للقانون الدولي العام وللقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك القتل المتعمد لموظفي الأمم المتحدة الذين يفترض أن يتمتعوا بحصانة دولية، وقتل الصحفيين والعاملين في مختلف وسائل الإعلام، وتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات..الخ، ما يؤكد بما لا يدع مجالاً لأي شك أن الولايات المتحدة أصبحت شريكاً مباشراً في ارتكاب تلك الجرائم والانتهاكات المحرمة دولياً.

ثانياً: إضعاف هيبة الأمم المتحدة ومكانتها وشلّ قدرتها على القيام بوظائفها الرئيسية، وفي مقدمتها المحافظة على السلم والأمن الدوليين من خلال نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في الميثاق، ما يعني تعمّد إثارة الفوضى في النظام العالمي كله، وإشاعة قانون الغاب المستند إلى القوة وحدها وليس إلى قواعد العدل والإنصاف.

وهذا البعد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأميركية ليس وليد اليوم، وإنما يمتد إلى عقود سبقت، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه. فالدولة التي تسعى لفرض هيمنتها المنفردة على النظام الدولي لا يمكن أن تسمح بوجود نظام فعال للأمن يشارك المجتمع الدولي في إدارته، وفي الرقابة عليه.

ثالثاً: ردع الأمين العام للأمم المتحدة وتخويفه والحيلولة دون تمكينه من اتخاذ أي نوع من المبادرات إلا بعد الرجوع إلى الإدارة الأميركية أو الحصول على تصريح مسبق منها. وهذا بعد ممنهج في سياستها أيضاً، وكلنا يتذكر إصرار الولايات المتحدة على استخدام "الفيتو" عام 1996 لرفض التجديد لبطرس غالي للحصول على ولاية ثانية كأمين عام للأمم المتحدة، لا لشيء إلا لأنه صرح بنشر تقرير للأمم المتحدة يؤكد ضلوع "إسرائيل" في ارتكاب "مذبحة قانا".

خلاصة القول، إن استخدام الولايات المتحدة حق "الفيتو" لمنع مجلس الأمن من اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار، والسماح بهدنة إنسانية تستهدف إنقاذ 2.2 مليون فلسطيني من خطر الإبادة ليس له سوى معنى واحد، وهو أن دم الشعب الفلسطيني أصبح معلقاً في رقبة الولايات المتحدة الأميركية، على وجه العموم، ورقبة إدارة بايدن، على وجه الخصوص. 

 

حسن نافعة ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراًاً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل