أقلام الثبات
لم تكن المناورة العسكرية الحية, التي نفذتها المقاومة في موقع "كسارة العروش" الذي ارتوى ترابه بدماء عشرات المقاومين حتى لحظة تحريره من براثن الاحتلال, وتحت اعين مئات الاعلاميين من جميع المشارب السياسية, والفكرية, وحتى الثقافية, نفذت مناورة للاطلاع على اسلحة, وكيفية تنسيق النيران بينها بدقة عالية, أو إدارة معركة بحرفية عالية, ولم تكن هذه المناورة رسائل للعدو الصهيوني المتربص بلبنان وثرواته المائية وما في بواطن مياهه البحرية.
لقد كانت المناورة المتزامنة مع ذكرى التحرير, وفي أيام عيد المقاومة والتحرير, للذين واكبوا المقاومة منذ طلقتها الاولى, وسط حال الضياع اللبناني جراء عدوان 1982, واحتلال العاصمة بيروت - ست الدنيا -, والتشكيك في امكانية طرد الاحتلال مقابل تذلل سياسي القصد منه تعميق الاحباط , كانت لهؤلاء أكثر من رسائل سياسية, واعمق من عملية نارية ستجد أكلها حتما في اللحظة المناسبة, اي عندما يعطي قائد المقاومة إشارة من إصبعه, وهي كانت بكل بساطة اظهار حيز من ثقافة تراكمت على مدى السنوات, كتبت احرفها الاولى ثلة من الرجال بإعلان بمدى الصوت, لا خضوع للاحتلال, وسنعمل على زواله مهما كانت الاثمان, والدماء ليست اغلى من الاوطان, بل هي حارسة الاوطان, وهكذا تنتمي الى لبنان.
لقد قدمت المقاومة في درسها الأول مع اشراقة انطلاقتها, شرحا مسهبا للمشتبهين والمشككين, باستحالة التحرير من جهة, وللذين يتنافسون على اهدار دم اللبنانيين رغبة بالوصول إلى سدة الحكم, و السيطرة على السلطة السياسية، والذين كانوا يرغبون أيضًا في تغيير المشهد الثقافي اللبناني من جهة ثانية, الى ما يسمونه" طريق الحداثة" عبر أسرته باتفاقات مذلة, وبالتالي تشكيل مجتمع مضيع ,يبحث عن هوية وهو مكبل, ما يسهل اقتياده ودفعه نحو هاوية الانصياع, بدل تعزيز فضيلة الولاء والنضال والجهاد والتضحية بالنفس من أجل حرية الشعب والوطن.
إن الدرس الثاني: بمراكمة ثقافة المواجهة مع المحتل بالدم الوطني الأطهر, شهداء وجرحى, والمثابرة في الاعداد والتوجيه, وتقديم النموذج اللبناني في العطاء بلا حدود.
الدرس الثالث: وهو هام جدا, تمثل في القدرة غير المسبوقة في خرق عقل العدو, وقض مضجعه وجعله لا يشكك, ليس الوصول إلى مضاجعه المحصنة فحسب, بل الى ما وراء الحدود أمر بات حتمياً في حسابات المقاومة, التي اعلنت من خلال المناورة قدرتها في دخول الجليل وتحريره. وعليه, فان المتطلع على رد الفعل الاسرائيلي, من القيادة السياسية الى الامنية والعسكرية الحالية, ولا سيما في مؤتمر هرتزليا الذي يحضره كبار القادة من شاغلي المناصب العليا, الحاليون والسابقون, او ما يسمون "حكماء اسرائيل", يدرك الاثر الثقافي الكبير الذي تركته المناورة في عيد التحرير والمقاومة ,في بنية الكيان الذي اهتزت اركانه في اسسها الثقافية المبنية على اساطير كاذبة , انعكست على الجبهة الداخلية بشكل مريع , مقابل صناعة بطولات حية في التضحية والوفاء للوطن والناس . دون الالتفات الى مشاغبي التوهين الوطني , وجماعة "العين لا تقاوم المخرز", والتعري الوطني امام "اسرائيل" وحماتها, مقابل الاستبقاء الذليل .
الدرس الرابع: تجلى في اشعاع ثقافة المقدرة لدى الشباب العربي بشكل عام , والشياب الفلسطيني بشكل خاص , بان فيه قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ, وهذا ما حصل في فلسطين في حربين على غزة وفي معارك سيف القدس ووحدة الساحات وثأر الاحرار , وتشكل مجاميع مقاومة لم يدرك الاحتلال وقواه الاستخبارية في فك رموز اليقين في الجيل الصاعد .وعزمه على تحرير فلسطين, كل فلسطين, بلا رهان ولو بقيراط على ان اي تسوية مع العدو ليست الا استسلاما لمشيئته, وبالتالي تخل عن الحق للباطل, وهذا يخالف تعاليم السماء.
الدرس الخامس: ان القدرات التي تتمتع بها المقاومة اليوم في كل الساحات , وفي الساحة اللبنانية على وجه الخصوص وعلى كل المستويات السياسية , والعسكرية والامنية والعلاقات الاهلية مع اللبنانيين جميعا كنموذج يحتذى , لم تكن الا نتاج صبر ,لتحقيق الهدف الاسمى بالخلاص من الاحتلال, من ضمن بناء مشروع لوطن لا تتلاعب بتكوينه ايادي الغرب, منطلقا في اساسه من بندقية خفيفة من طراز كلاشينكوف, وقاذف ار بي جي .
الدرس السادس: ان القاعدة الثابتة التي انطلقت منها المقاومة, بعيدا عن الدخول في متاهات التفاوض غير المجدي, كانت الركيزة الاساس, بان التفاوض مع الاحتلال على الحقوق, خيانة, جعل الالتفاف الشعبي حولها غير مسبوق, وقد ايقظت في المحيط العربي, الذين كادوا يغرقون في الاحباط , ففتحوا العيون على حقائق كانت مغلفة بسحابة التسويات والتنازلات, واعادت للكثيرين نبض الحياة, سيما مع التعرف على جزء يسير من قدرات المقاومة, ورجالها الميامين، الذين قدمت ثلة منهم المناورة في "كسارة العروش" التي شهدت انكسار واحدة من انكسارات "اسرائيل" التي ظنت يوما انها تستحوذ على عرش لبنان. لقد فاز رجال المقاومة خلال مناورة "كسارة العروش", بقلوب وعقول الحاضرين, ولا سيما الاعلاميين من انتماءات متعددة, لا علاقة لها بمسيرة المقاومة, حتى ان الاجانب عبروا عن اعجابهم بطرائق مختلفة, لكن الكل اجمع على ان هؤلاء الرجال تراهم كرجل واحد بعشرات الارواح الموزعة على تلك الاجساد التي تنتظر العبور الى فلسطين .