"الخالدون"... بسيَرهم وبذورهم ــ يونس عودة

الخميس 11 تموز , 2024 10:07 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات
نصٌّ، بعضه مستعاد لحكاية واقعية تروى لكنه ليس ككل النصوص, وكم تمنيت ان يبقى بطل الحكاية المدهش في تواضعه, والثري في تجاربه, سرا من اسرار المواجهة في الحرب التي لم تحط رحالها بعد, اذ كنا على امل لقاء اخر, وحكاية واقعية اخرى, تروي حكايات المواجهة في كل موقع حكايات رجال, والمؤدية الى الانتصار المحقق حتما, ويقينا كناتج طبيعي من ادارة الإنجازات اليومية على تلك الجبهة التي حشد على تخومها, الجيش الأكثر قذارة, كل ما وصلت اليه التقنيات من تطور, وكانت تتناثر شظايا بالية في الفضاء وعلى الأرض.
ذات ليلة كانونية كان اللقاء مع الحاج او نعمة، القائد المجاهد, المؤمن, المتواضع كسنبلة في حقل مترامي الابعاد, الشهيد في الميدان اغتيالا, بعدما اعيا العدو طوال معركة طوفان الأقصى, وما قبل.
ذابت كل السيناريوهات المتخيّلة التي راودت الرؤوس في الطريق الى المكان المقصود على تخوم الجبهة لحظة دخول القاعة الرحبة بشغف اللقاء مع القائد الميداني، وهو منتصب القامة بلباس الميدان، مستقبلًا كالطود الشامخ المتواضع بانحناءة السنبلة، واضعًا يده مسلمًا على الزوار فردًا فردًا وكأنه على معرفة بكل واحد من الثلة، وإلى جانبه شاب بهندام أنيق متناسق لا يحتاج المرء كثيرًا ليدرك أنه يحوز على مدارك فنية وهندسية ليس من الدراسة فقط، وإنما من الميدان مباشرة.
يشرح القائد الميداني الذي عركته تجارب الحروب على أشكالها وفي ساحات الاشتباك المختلفة، عن عمل جيش الاحتلال في الجهة المقابلة من الحدود، والامكانات البشرية واللوجستية والتبديلات التي يلجأ إليها مع كل تطور أو حدث ما، ويسمي أسماء ألوية: فرقة الجليل والكتائب الملحقة، وعمل الاستخبارات وساعة التعديل العملاني، وعمل كل كتيبة بدقة متناهية نتيجة الجهد الاستعلامي للمقاومة، وكأن عينيه داخل قاعة قيادة الأركان "الاسرائيلية".. لا يتردد القائد الميداني بالبوح بأن جيش العدو "الاسرائيلي" في حركة مستمرة، لكن القدرة على التكييف العملياتي بالنسبة للمقاومة يجعل يدها الطولى في المعركة، لا سيما مقدراتها على استيعاب العبر بسرعة، وقد كانت لعملية طوفان الأقصى إلهاماتها المنيرة.
يقول القائد الميداني الصبور على بعض الأسئلة إن المقاومة تتعاطى مع الجغرافيا والمنطق، ولديها يقين من خلال الوضع الميداني والمراقبة اللصيقة، أن العدو في وضع دفاعي وكل حركته الميدانية، رغم توسيعه أحيانًا دائرة النار باعتباره المنطقة كلها منطقة عسكرية وكل حركة بمثابة الهدف، لكنه يدرك أن المقاومة لم تستخدم من قدراتها العسكرية شيئًا يذكر، حتى من صاروخ البركان الذي استخدمت من أجياله الجيلين الأدنى، فما بال العدو بالجيليين الآخرين، إذا لم نتحدث عن أنواع وطرازات أخرى لم تظهر في الميدان أبدًا، فـ"كله في أوانه"، بحسب القائد، و"نحن لسنا حتى الآن في المواجهة الواسعة، ولا نريد أن نظهر تكتيكاتنا وقد عالجنا ما يجب معالجته من الحماسة والسرعة واستنساب الدقة، ونحن نقوم بالدرس والتقييم والاجراءات بما يتناسب مع الميدان والرد المتناسب ويدنا  هي الأعلى".
أكثر من ساعتين من الشرح تجعل المستمع أكثر رسوخًا ويقينًا بالنصر الآتي على أجنحة شهداء لم نعرفهم، لكننا عرفنا أحد قادتهم الذي يلوذ بكلمات سيد المقاومة اليقينية بالنصر الحتمي.
لم اقبل ان اصدق حين جاءني الخبر ان أبو نعمة هو المقصود بالشهادة، مع انه يعرف أكثر من الجميع انها طريقه الوحيد..
اتذكر حين كنا؟
نعم
انه هو.
حبست اختناقة, ولم أتمكن من حبس دمعتين.
القائد الشهيد "أبو نعمة " على طريق القدس, قلة كانت تعرف قدراته وحنكته في الميدان, الا ان العدو الذي كان يؤلم كل يوم من ضرباته, كان الأكثر إدراكا جراء خسائره في الميدان من يواجه, أي عقل ورجال, تمثلوا ايمانا وشجاعة في العقل, كما القلب ,شجاعة سمت بالثبات على الحق والقتال من اجله حتى الرمق الأخير.
 ستنظر يا ابا نعمة من عليائك الى اخوة الدم والتراب وتكون سيرتك نبراسا يضيء ويلهم, ويبقى امثالنا عالقين في حروف تخط ذكريات ومشاعر، تهز أجسادنا في اقتحام الذاكرة الحصينة, ويستحيل محو مخزونها من ذكريات حفرتها كلماتك في عمق الاعماق.
الحاج أبو نعمة, عذراً، في زمن الانحطاط العربي, والقحط الوطني, فمثلك لا يحتاج اعلى الاوسمة العسكرية والوطنية, وكل اوسمة الحرب منهم، لقد نلت وسام السماء الارفع, إيماناً وحبا وتواضعا, وتركت سنابلك لتنبت في كل المواسم, كما انت.
يوم تشييعك المهيب, وانت مسجى, لم تحد عيناي عن النعش, مع تزاحم الخواطر، واستعادة الذاكرة لتفاصيل اللقاء, الممهور ختامه بالتمني لحصول لقاء اخر, لندون للأجيال حكايات مجد وبطولات، ممهورة بسيل طهور من الدماء على ارض لبنان.
ان كان في مكانك في العلياء متسع.. الى اللقاء.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل